تنفّست مدينة الحمامات، الوجهة السياحية المتوسطية الأشهر في تونس، ليلةً استثنائية مع إيقاعات موسيقى كناوة الأصيلة، التي زينت ثالث أمسيات المهرجان الدولي للمدينة، حاملةً معها عبق التاريخ الإفريقي وروح المحيط الأطلسي.
فعلى ركح مسرح الهواء الطلق بالحمامات، الذي يستلهم تصميمه من المسارح اليونانية والرومانية، التقى جمهور متعطش لاكتشاف هذا اللون الموسيقي مع هند النعيرة، «المعلمة» الشابة القادمة من ضفاف الأطلسي، برفقة فرقتها التي أبدعت في تقديم عرض أعاد رسم ملامح التراث الكناوي في صيغته الخام.
كمبري.. قراقب.. وإيقاعات تنبض بالجذور
وامتد العرض كطقسٍ من الطقوس الكناوية التقليدية: كمبري في يد المعلمة الشابة، وأربعة شبان يمسكون بـ القراقب، يتنقلون بخفة بين الإيقاعات والحركات التي توارثوها جيلاً بعد جيل، وبعضها وُلد من رحم اللحظة تحيةً للجمهور التونسي الذي منح الأمسية طاقة خاصة.
هذا، و بدأت هند النعيرة عرضها بذكاء، تاركةً مساحة للتأمل السمعي والبصري، قبل أن تُشعل المسرح حين لمحت تمايل الأعناق وتصفيق الأكف، فدعت الحضور إلى أن يصبحوا جزءًا من هذه الليلة الكناوية، مرددين معها المقاطع والإيقاعات، ومسايرين عزف القراقب بتصفيقٍ متناغمٍ وحركاتٍ ارتجالية زادت الأجواء دفئًا وحميمية.
من الصويرة إلى الحمامات.. نفس الروح ونفس الحلم
في تلك الليلة الصيفية الحارة، تحوّل المسرح إلى فضاء مفتوح لعوالم أسطورية، حيث ردد الجمهور كلمات مثل «امبارا مسكين» و«سيدي ميمون»، أسماء تحيل إلى جذور المعاناة الإفريقية وحكايات «ماورائية» نسجها أوائل الكناويين كنافذة للانعتاق الروحي.
وأبدعت هند النعيرة وفرقتها في نقل جمهور الحمامات إلى أجواء مهرجانات الصويرة المغربية الشهيرة، وكأن نسيم الأطلسي حضر خلسةً إلى الضفة المقابلة للمتوسط.
وحتى حين خفت صوت الكمبري وتلاشت رنة القراقب، ظل الحفل مستمرًا عبر همسات الجمهور الذي أكمل الغناء بإيقاعٍ غير مسموعٍ لكنه نابض بروح كناوة العريقة.
ليلة كناوية ستظل عالقة في الذاكرة
وبهذا العرض، تركت فرقة هند النعيرة بصمةً استثنائية في ذاكرة المهرجان، وأعادت التذكير بقوة الموسيقى الكناوية في الجمع بين الماضي والحاضر، وفتح أبواب الروح على عوالم من الحرية والانعتاق.



