الصناعة التقليدية: بوابة المغربيات نحو العالمية

- Advertisement -

من بين أزقّة المدن العتيقة، وهدير الأسواق الشعبية، ينهض فنّ مغربيّ أصيل، حاملاً بين خيوطه ونقوشه ذاكرة أمةٍ بأكملها.

إنّ الصناعة التقليدية في المغرب، وتحديدًا تلك التي تصنعها أنامل النساء، لم تكن يومًا مجرّد حرفةٍ تكميلية، بل هي جوهر الهوية المغربية ومرآتها التي تعكس أصالة التراث وروح الابتكار.

المرأة: ذاكرة الحرفة وحارسة الأصالة

ومن قلب البيوت القروية إلى الورشات الصغيرة في الحواضر، حافظت النساء المغربيات على أسرار الحرفة وأورثنها جيلاً بعد جيل. فكلّ زربيةٍ تُنسج، وكلّ قطعة فخار تُشكّل، وكلّ تطريزٍ يُنقش، إنّما هو رسالة حيّة تُنقَل من أمّ إلى ابنة، تحمل في طيّاتها لون الأرض ونبض الناس.

ليست الصناعة التقليدية هنا مجرّد إنتاجٍ مادّي، بل فعل مقاومةٍ للزمن، إذ تحمي النساء بهذا الفنّ صدى التراث من الاندثار، وتُبقين على الذاكرة حيّةً في مواجهة مدّ العولمة.

رافد اقتصادي ووجهة سياحية

ليست الأسواق التقليدية مجرّد فضاءات للبيع، بل مسارح تعرض فيها المرأة المغربية هويتها وإبداعها أمام زوارٍ يبحثون عن الأصالة.

 في المدن العتيقة كساحة جامع الفنا بمراكش، أو الأسواق المظلّلة بفاس وتطوان، تتلاقى الحرفيات مع سيّاحٍ يقدّرون لمسة اليد ودقّة الصنعة.

إنّ الصناعة التقليدية النسائية تمثل رافدًا اقتصاديا حيويًا، يوفّر دخلاً لعشرات الآلاف من النساء، ويضمن لهنّ استقلالية مالية خاصة في الأرياف، حيث تُشكّل هذه الحرف في كثيرٍ من الأحيان مصدر العيش الوحيد.

وهكذا، تتحوّل أنامل النساء إلى بوابة للعائلة والمجتمع نحو تحسين مستوى العيش، وتحريك الدورة الاقتصادية محليًا ووطنياً.

من الحرفة إلى العالمية

لم يعد الطموح المغربي يكتفي بالأسواق الداخلية؛ فقد باتت المنتجات التقليدية النسائية اليوم تتسلل إلى العواصم العالمية عبر معارض دولية، ومنصات إلكترونية، وعلامات تجارية تسعى لضمّ هذا الفن إلى رفوفها.

 غير أنّ الإبداع لا يقف عند حدود التصدير، بل يتجلّى في قدرة المغربيات على التجديد؛ دمج النقوش التقليدية بالتصاميم العصرية، تطوير الألوان والمواد، وتلبية أذواقٍ متغيّرة دون التنازل عن جوهر الأصالة.

الصناعة التقليدية

تحديات الاستدامة وحماية الهوية

ورغم كلّ ما تحقّق، تظلّ الصناعة التقليدية النسائية محاصَرةً بتحديات عديدة، أبرزها ضعف التسويق المنظّم، ومنافسة المنتجات المستوردة الرخيصة التي تقتات على تراثٍ حقيقيّ.

كما تواجه الحرفيات صعوبة الوصول إلى التمويل، وضعف التكوين في مجالات التصميم الحديث والتسويق الرقمي.

ولا يقف الأمر هنا، بل يشتدّ خطر الاستغلال حينما تتحوّل هذه المنتجات الفريدة إلى سلعةٍ بأيدي سماسرة وتجار كبار أو علامات تجارية عالمية، تُصدّرها بأثمان باهظة في الأسواق الأوروبية بينما تبخسها في موطنها الأمّ.

ولعلّ المثال الأبلغ على ذلك “البلغة المغربية” التي لا يتجاوز ثمنها في الأسواق المحلية ستين درهمًا، بينما تُباع نفسها في إسبانيا بأكثر من 250 درهمًا، وفي فرنسا قد يصل سعرها إلى 300 درهم وأكثر، دون أن يعود هذا الهامش الكبير على الحرفية التي أبدعتها أو على المجتمع الذي يحمي هذه الصناعة من الاندثار.

تقنينٌ يحفظ الحقّ ويرفع الراية

إنّ الصناعة التقليدية النسائية اليوم أحوج ما تكون إلى منظومة قانونية صارمة تحميها من التقليد والاستغلال، وتحصّن حقوق الحرفيات في مواجهة الوسطاء والعلامات الكبرى، وتضمن عدالة الربح وحقوق الملكية الفكرية للمنتج الثقافي.

إنّها مسؤولية مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، تقتضي تسريع مسار التنظيم، وفرض علامات الجودة، ودعم التعاونيات النسائية ببرامج تمويل مبتكرة، وتوفير قنوات تسويق حديثة تربط الحرفية بالسوق الدولي مباشرة، لتظل الصناعة التقليدية بوابة مفتوحة أمام المغربيات للعبور من الحيّ الشعبي إلى واجهات المتاحف والبوتيكات العالمية، وهي تحمل معها هوية مغربٍ أصيلٍ يتجدّد ولا يزول.

و لعلّ هذه الصناعة، حين تُصان وتُحمى، تظل الجسر الذي تعبر عليه المرأة المغربية من بيتها البسيط إلى العالم بأسره، حاملةً في يديها مفاتيح التاريخ وألوان الأرض وعبق الحرفة الذي لا يموت.

علاء البكري