في ربوع المغرب، من أعالي جبال الأطلس الى تخوم الصحراء إلى أزقة المدن العتيقة، تبرز نساء استثنائيات يشقُقن طريقهن بثبات في مجالات ظلت لعقود حكرًا على الرجال ان هن الفاعلات في القطاع السياحي.
في هذا العدد من مجلة فرح، نلتقي بامرأتين ملهمتين، حملتا الشغف والهوية المغربية على عاتقهما، وجعلتا من تجربتيهما قصة نجاح حقيقية.
من زينب بوتخوم، رائدة الأعمال ومرشدة الجبال في ورزازات، التي حولت حبها للطبيعة وفن الطبخ المغربي إلى مشروع سياحي مستدام يخدم نساء القرى إلى ليلى العمارة، ابنة فاس، وأولى النساء المغربيات اللواتي اقتحمن مجال الإرشاد السياحي الوطني، دفاعًا عن التراث المغربي وتقديمه للعالم بعيون نسائية واعية وفخورة بجذورها.
في هذين الحوارين الحصريين، تحكي كل من زينب وليلى عن بداياتهما، التحديات التي واجهتاها، والآمال التي تحركهما، كما تقدمان رؤى ملهمة للشباب والفتيات الطامحين إلى شق طريقهم في مجالات السياحة، الثقافة، والتنمية المحلية.
ليلى العمارة: رحلة حافلة في عالم الإرشاد السياحي الوطني
في قلب مدينة فاس العريقة، المدينة التي تنبض بتاريخ عميق وتراث أصيل، نشأت ليلى العمارة، المرشدة السياحية الوطنية المغربية التي أثبتت أن الشغف والعزيمة قادران على كسر الحواجز. في مجال ظل لفترة طويلة حكرًا على الرجال، كانت ليلى من أوائل النساء المغربيات اللواتي دخلن ميدان الإرشاد السياحي الوطني، حاملةً على عاتقها مهمة التعريف بالثقافة والتراث المغربيين أمام العالم. في هذا الحوار الحصري مع مجلة “فرح”، تستعرض ليلى تجربتها الفريدة، تحدياتها، وإنجازاتها، وتقدم نصائح ملهمة للشباب والفتيات الطامحين للعمل في هذا المجال الحيوي.
من هي ليلى العمارة؟
أنا ليلى العمارة، امرأة مغربية، ومرشدة سياحية وطنية، من مواليد مدينة فاس، تلك المدينة العريقة التي تنبض بالتاريخ والحضارة. تابعت دراستي الثانوية في ثانوية مولاي إدريس، وهناك بدأت أولى شرارات الشغف بمجال الإرشاد السياحي. فقد كانت المؤسسة تطل مباشرة على المدخل الرئيسي للمدينة العتيقة، حيث كنت أشاهد يوميًا أفواجًا من السياح من مختلف الجنسيات، وهم يُصغون باهتمام إلى مرشد يرتدي الزي المغربي التقليدي، يشرح لهم بلغة أجنبية تفاصيل المكان بشغف.
كان هذا المشهد يثيروني فضولًا كبيرًا، حيث كنت ألاحقهم أحيانًا من بعيد فقط لأغوص في عالم لم أكن أعرفه بعد: عالم المعمار، والفن، والتاريخ، والآثار. ومنذ ذلك الحين، بدأت أقرأوأبحث في الكتب القديمة، وفي قصص الرحالة والأساطير، لأميّز بين الخيال والحقيقة، وبين الرواية والأسطورة. وهكذا، بدأت تتضح ملامح مساري المهني، وتبلورت رغبتي في أن أكون مرشدة سياحية وطنية تنقل صورة المغرب للعالم، من قلب مدنه العتيقة وأسواره العريقة.
لماذا اخترتِ مهنة الإرشاد السياحي؟
بعد حصولي على شهادة الباكالوريا، التحقت بالمعهد العالي للسياحة بطنجة، وكان اختياري واضحًا: تخصص الإرشاد السياحي الوطني. لكنه لم يكن قرارًا سهلًا، فقد قوبل برفض من أسرتي، وبعض أساتذتي، وحتى زملائي، نظرًا لأن هذه المهنة، في ثمانينيات القرن الماضي، كانت تُعد حكرًا على الرجال.
رغم ذلك، كنت مؤمنة بأن الشغف لا يعترف بالقيود. حيث كان لدي نموذج نسائي ملهم، وهو ليلى الإدرزي، أول مرشدة سياحية وطنية حاصلة على دبلوم من معهد طنجة سنة 1976، إذ كانت ترافق السياح الناطقين بالفرنسية في جولات معرفية غنية. هذا المثال أعطاني دفعة قوية للمضي قدمًا.
وفي سنة 1984، حصلت على رخصتي كمرشدة سياحية وطنية من المعهد السياحي بطنجة، لأكون من أوائل النساء المغربيات اللواتي اخترن دخول هذا الميدان بشغف ومسؤولية.

كيف كانت تجربتكِ في الحصول على رخصة الإرشاد؟
كانت لحظة الحصول على رخصة الإرشاد السياحي محطة فارقة في مسيرتي. بعد إنهاء دراستي، توجهت إلى مقر وزارة السياحة لاستلام الرخصة، وهناك طُلب مني مقابلة الوزير شخصيًا. استقبلني بابتسامة وقال: “إذا كانت لديكِ الجرأة لولوج هذا المجال، فعليكِ أن تتحلّي بالعزيمة لتواجهي التحديات المقبلة.” فأجبته بكل ثقة: “أنا في مرحلة تعلُّم، والتجربة تستحق المغامرة”.
ابتسم مرة أخرى وسلّمني الرخصة، لكنه أضاف بجدية: “لا أريد أن أرى اسمك في أي شكاية من أي جهة في القطاع.” كانت تلك الكلمات بمثابة عهد داخلي. ومنذ ذلك اليوم، وضعت نُصب عيني أن أكون مرشدة سياحية مهنية تمثل المرأة المغربية بكل جدارة واحترام.
ما هي أبرز التحديات التي واجهتكِ كمرشدة سياحية في المغرب، خاصة كامرأة في هذا القطاع؟
في بداية مسيرتي، لم يكن التحدي فقط كوني امرأة في مهنة كان يُنظر إليها آنذاك على أنها حكر على الرجال، بل كان عليّ أيضًا إثبات جدارتي بتحمّل مسؤولية مرافقة أفواج سياحية متنوعة تمتد رحلاتها من سبعة أيام إلى أكثر، وتضم أشخاصًا من جنسيات وثقافات مختلفة، يجمعهم سائق واحد ومرشدة واحدة
كان التحدي الأهم هو الحفاظ على الانسجام داخل المجموعة، وتوفير تجربة ممتعة وغنية بالمعلومات، تلبي توقعات الجميع. كان هدفي دائمًا رضا الزوار، لأنه يثبت كفاءتي ويضمن استمراريتي.
أما التحدي الآخر، فكان إثبات أن المرأة المغربية قادرة على تمثيل بلدها بكفاءة، دون التخلي عن هويتها، حتى في مجال ظل لفترة طويلة تحت سيطرة الرجال. لم يكن من السهل تقبُّل هذا الدور من قِبل بعض فئات المجتمع، سواء داخل المغرب أو خارجه، لكنني وُفقت، إلى جانب عدد من الزميلات الرائدات، في فتح الطريق أمام جيل جديد من المرشدات المغربيات.

كيف تساهمين من خلال عملكِ في التعريف بالتراث المغربي والترويج له لدى الزوار الأجانب؟
أعتبر مهنة الإرشاد السياحي فنًّا قبل أن تكون مجرد وظيفة. فإلى جانب الثقافة العامة التي يجب أن يتحلى بها المرشد، لا بد من امتلاك مهارات تواصل فعّالة، والقدرة على إيصال المعلومة بدقة ومرونة لجنسيات متعددة، تنتمي لثقافات وخلفيات مختلفة. كما يتطلب الأمر سرعة في التعامل مع المواقف الطارئة والمشكلات التي قد تواجه الفوج أثناء الجولات، سواء تعلّقت بالأحوال الجوية، أو الإقامة، أو الطعام، أو حتى الظروف الصحية.
ومن موقعي كمرشدة، أشعر بمسؤولية كبيرة في التعريف بالغنى الثقافي والتاريخي للمغرب، هذا البلد الذي يتميز بموقعه الجيوسياسي الاستراتيجي وتاريخه العريق الممتد عبر قرون، ودوره البارز في مجالات متعددة. المغرب غني بثقافته المتنوعة، ومهمتي أن أقدّم هذا التنوع في أفضل صورة لكل زائر. كما أؤمن أنني، إلى جانب زميلاتي، نمثل الوجه الأنثوي للثقافة المغربية، ونحرص على تقديم صورة مشرفة عن المرأة المغربية ودورها في الحفاظ على التراث والترويج له.
هل يمكنكِ مشاركتنا إحدى اللحظات التي تركت أثراً فيك خلال مسيرتكِ المهنية، سواء كانت طريفة أو مؤثرة؟
خلال مسيرتي الطويلة، عشت مواقف لا تُنسى، منها ما هو مؤثر ومنها ما يبعث على الابتسامة. أبدأ بما كان حزينًا: قبل حوالي 15 سنة، توفي أحد الزوار الذين كنت أرافقهم خلال جولة سياحية في مدينة الراشدية. كانت لحظة صعبة جدًا وتحملت خلالها مسؤولية كبيرة، لكن ما خفف من وطأتها هو أن عائلته لا تزال على تواصل معي إلى اليوم، وقد ربطتنا علاقة إنسانية جميلة بعد تلك التجربة.
أ أما من المواقف الطريفة، فأتذكر ليلة تلقيت فيها اتصالًا من شرطة مراكش بخصوص أحد السياح في مجموعتي. كان قد شاهد مدفعًا أثريًا يزين أحد أبواب المدينة، وظنّ أنه معروض للبيع! فعاد في المساء وبدأ بالحفر حوله محاولًا “أخذه”، ما استدعى تدخل الشرطة. وعندما تواصلوا معي، شرحت له أن المدفع جزء من التراث الوطني ولا يمكن بيعه، لكنه أصرّ على أن تتواصل الشرطة مع الجهة المالكة لتحديد سعره! كان الموقف طريفًا جدًا، ولا زلت أتذكره بابتسامة.

ما هي النصيحة التي تقدمينها للشباب المغربي، وبالأخص للفتيات، ممن يطمحون للعمل في مجال الإرشاد السياحي؟
أنصح كل من يرغب في دخول مجال الإرشاد السياحي، خاصة من الشباب والفتيات، بأن يضعوا التكوين واكتساب الخبرة في صدارة أولوياتهم. ففي بداياتي، لم يكن الربح المادي هو الهدف، بل التعلم واكتساب المهارات الميدانية، وهو ما يصنع الفارق الحقيقي في هذه المهنة.
اليوم، ومع التطور التكنولوجي وسهولة الوصول إلى المعلومة، أصبح السائح أكثر وعيا وتطلبا، مما يفرض على المرشد أن يكون دقيقًا، مثقفًا، ومواكبا للتغيرات. كما أن تنوّع خلفيات السياح واختلاف توقعاتهم يجعل من التكوين المستمر والقدرة على التكيّف عنصرين ضروريين لممارسة هذه المهنة باحترافية.



