في عالم العطور، لا شيء مستحيل. حتى تلك الزهور التي يستحيل استخراج عبيرها من الطبيعة، تجد طريقها إلى زجاجة عطر تنبض بالحياة. في هذا الصيف، تتنافس الدور الكبرى مثل شانيل، وديور، وغيرلان، وهيرميس، على ابتكار تركيبات تُحاكي رائحة زهور لا يمكن تقطيرها أو استخلاصها… لكنها تُلامس الحواس كما لو كانت حقيقية، إنْ لم تكن أجمل.
حين ترفض الزهور أن تُسجن في زجاجة
قد تبدو بعض الزهور -مثل الزنبق، وزنبق الوادي، والليلك، والبنفسج، والغاردينيا، والفاوانيا، والياقوتية وياسمين العسل- غنية بالرائحة، لكنها في الواقع عصية على العالم العطري. لا تمنح العطّار أي زيت يمكن استخدامه، ولا يمكن زراعتها بكميات كافية للإنتاج الصناعي.
سحر الصنعة: عطور تُبنى على الذاكرة
يقول كبار صانعي العطور إنهم لا يستخلصون رائحة الزهرة كما هي، بل يتذكرونها ويعيدون تشكيلها. وتوضح ماتيلد لوران، العطّارة المبدعة لدى دار كارتييه، أن “نركب عبير الزهرة كما نشعر به ونتذكره، مستخدمين خلاصات من نباتات أخرى وجزيئات اصطناعية. كل عطر هو بمثابة أحجية شخصية وفريدة”.
ديوريسيمو وغاردينيا: قصائد عطرية خالدة
في عام 1956، ابتكر إدموند رودنيتسكا، عطر “ديوريسيمو” ليحاكي رائحة زنبق الوادي، في عمل شكّل ثورة في عالم العطور. أما دار شانيل، فأطلقت عطر “غاردينيا” عام 1925 على يد إرنست بو، ثم أعاد جاك بولج إعادة صياغته ببراعة عام 1983، ليظل أحد أعظم العطور التي تعكس عبير زهرة “الغاردينيا” الوهمية.
عطر بور مويجيه: زنبق الوادي كما لم نعهدها من قبل
في عطر “بور مويجيه”، تقدم ماتيلد لوران ترجمة نقية وعصرية لرائحة زنبق الوادي. لم تعتمد على خلاصة الزهرة لعدم توفرها، بل مزجت الياسمين والورد والغالبانوم بكميات قليلة، وأضافت جزيئات تعبّر عن ملمس الورقة، طراوة الساق، ورطوبة النسغ. النتيجة؟ زهرة نابضة بالحياة، وكأنها لم تُقطف من على الغصن.
البنفسج: زهرة خُلقت في المختبر
على الرغم من عبيره المميز والرقيق، فإن البنفسج لا يمنح العطّارين أي زيت عطري يمكن استخلاصه، مما جعله واحدًا من الزهور “المستحيلة” في عالم العطور. لكن الحل جاء من المختبرات، حيث ابتُكرت في أواخر القرن التاسع عشر جزيئات اصطناعية مثل الأيونونات والميثيليونونات، التي نجحت في إعادة تركيب عبير البنفسج بلمسة زهرية، ناعمة، بودرية وأحيانا خشبية، وقد ألهمت هذه الجزيئات مجموعة من العطور الأيقونية، مثل: ” باريس من مجموعة إيف سان لوران، الذي طبعت رائحته ذاكرة الثمانينات من خلال تناغم البنفسج مع الورد الفوّاح، ولوليتا لمبيكا الذي مزج البنفسج مع البرالين، عرق السوس واليانسون ليخلق عطراً مشبعًا بالحنين.
أما دار هيرميس، فقد قدمت مقاربة مختلفة عبر عطر من توقيع كريستين ناجل، جمع بين البنفسج والجلد، مستخدمة خلاصة ورقة البنفسج بدلاً من الزهرة نفسها، لتمنح تركيبة نابضة بالحيوية والتميز.
والورد ليس كما نعتقد
رغم أن الوردة تُعد من أغنى الزهور بالعطور، إلا أن صانعي العطور لا يعتمدون دائمًا على خلاصتها المباشرة. فالعطّارة ماتيلد لوران، على سبيل المثال، اختارت في عطرها “بور روز” عدم استخدام أي زيت أو مطلق ورد، بل استعانت بجزيئات تُحاكي شعور الوردة كما لو كانت لا تزال مزروعة في تُراب الحديقة. والنتيجة؟ رائحة تنبض بالحياة، تُجسّد الإحساس بالوردة لا شكلها فقط.
الواقع… أقل جمالًا أحيانًا
العطور “المستحيلة” هي مرآة لفنّ العطر حين يلامس الخيال. لا تعتمد على تقطير زهرة، بل على استحضارها من الذاكرة، من الإحساس، من الذكرى. إنها روائح لا تولد في الحقل… بل في القلب.
–



