في لحظة تختلط فيها العبقرية بالتعاون الدولي، والخيال العلمي بالإرادة البشرية، انطلق من الساحل الجنوبي الشرقي للهند قمر صناعي راداري فريد يحمل اسم “نيسار”، ليحلق على ارتفاع سبعمئة وسبعة وأربعين كيلومترا فوق سطح الأرض، شاهداً على تحولات الكوكب، مستشرفاً كوارثه الطبيعية والبشرية قبل أن تقع.
ويعد “نيسار” ثمرة تحالف علمي غير مسبوق بين وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” والمنظمة الهندية لأبحاث الفضاء، قُدر له أن يكون العين اليقظة لهذا الكوكب المتغيّر.
رادار بحجم شاحنة ودقّة لا تُخطئ
ولا يعتبر “نيسار” قمراً صناعياً اعتيادياً، بل جهاز رصد بالغ الدقة، يعادل حجمه حجم شاحنة صغيرة، مجهّز برادار مزدوج التردد، قادر على قراءة أدق التغيرات العمودية على سطح اليابسة والجليد، بدقة تصل إلى سنتيمتر واحد فقط.
إنه بمثابة طبيب جراح للكرة الأرضية، ينظر إلى باطنها دون مشرط، فيلتقط من الفضاء إشارات الزلازل قبل أن تزلزل الأرض، ويترجم أنين الأنهار الجليدية قبل أن تذوب وتفيض.
إشادة دولية وتوظيفات كوكبية
وجاءت عملية الإطلاق وسط ترقب علمي واسع، واحتفاء رسمي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، تجسيداً لتعاون فضائي تتجاوز أهدافه المدار، ليخدم الإنسانية في حاضرها ومستقبلها، عبر التنبؤ بالكوارث الطبيعية، ورصد الانهيارات الأرضية، والبراكين، وذوبان الجليد، وتدهور البنى التحتية، وحتى نمو المحاصيل الزراعية ورطوبة التربة.
رادار استثنائي لرصد الكوارث قبل أن تقع
وفي هذا الصدد، تقول العالمة سان جرمان واصفة “نيسار” إنه “الرادار الأكثر تطوّراً الذي بنيناه على الإطلاق”. فهو يبث موجاته الدقيقة بشكل متواصل ويلتقط صدى الأرض، ثم يعيد تجميع تلك البيانات بواسطة معالجة حاسوبية معقدة، ليصوغ صوراً عالية الدقة لما يحدث تحت السطح وفوقه، من غرينلاند إلى القارة القطبية الجنوبية، ومن دلتا الأنهار في الهند إلى سلاسل الجبال النائمة على البراكين.
خدمة زراعية وبيئية واسعة النطاق
وفي حين تستثمر الهند القمر لمراقبة شواطئها وتغيرات قاع المحيطات المحيطة بها، فإن “نيسار” سيقدم أيضاً خدمة جليلة للقطاع الزراعي، عبر مراقبة صحة النباتات وتحديد أماكن الإجهاد المائي، في لحظة يزداد فيها تغير المناخ فتكاً بالمحاصيل، ويهدد الأمن الغذائي العالمي.
شراكة تكنولوجية متكافئة
ولم يكت هذا الإنجاز العلمي ليتم لولا تضافر الخبرات: ناسا تكفّلت بأغلب المعدات الدقيقة بتكلفة تقارب 1.2 مليار دولار، فيما ساهمت المنظمة الهندية بجهود تقنية ومادية قاربت 90 مليون دولار.
وقد جرى تجميع القمر الصناعي واختباره في مركز بنغالور، الذي أصبح اليوم منارات البحث الفضائي في جنوب آسيا.
حلم الهند في الفضاء يقترب
وتتويجاً لهذا المسار، دخل الطيار الهندي شويانشو شوكلا التاريخ باعتباره أول هندي يصل إلى محطة الفضاء الدولية، ممهدًا الطريق لبعثة “غاغانيان” المأهولة، المقررة عام 2027.
وهكذا، تؤكد الهند مجددًا أنها ليست فقط أمة تحمل ماضياً حضارياً، بل تكتب حاضرها العلمي بخطى واثقة نحو الفضاء.



