تتوشح مدينة الداخلة بعبق الصحراء ونسمات البحر، حيث تتعانق الرمال الذهبية مع أزرق المحيط في انسجام خالد.
هناك، ينبثق صرح متألق، يحمل اسمًا يضج بالحياة والإبداع: “دار الصانعة”، الفضاء الذي زيادة على كونه معمارا صامدا في قلب المدينة، نسيج ينبض بأنامل نساء اتخذن من الحِرَف جسرًا بين زمن الأجداد وحلم الأجيال القادمة. تحنو عليه أناملهن، تعانقه أرواحهن، وتحتفي به ذاكرتهن؛ إذ تمنحنه نبضًا يحفظ الماضي ويرسم ألوان المستقبل.
في هذا المكان، تتلاشى الحدود بين الزمان والمكان، فتعود الحِرَف التقليدية إلى بريقها الأول، تتجسد في كل قطعة يدوية، في كل غرزة وخيط، في كل نقش وصنعة تحمل في طياتها قصص الأرض وأسرارها.
الحِرَف هنا تأبى أن تسكن المتاحف كتراث جامد، وإنما تحيا في أيادي التساء اللواتي يوشحنه إبداعًا وروحًا متجددة، ويحتفين به كركيزة أساسية من أركان التنمية والهوية الوطنية.
نساء يصنعن حياة
حين أطلقت ملامح هذه المبادرة الملكية السامية في عام 2015، ترسخت فكرة تنموية عميقة في الأقاليم الجنوبية، خصصت الموارد وجهّزت المشاريع لتكون الداخلة منارات مضيئة في رحاب تمكين المرأة.
وفي هذا الخصوص، استثمرت أكثر من 33.3 مليون درهم لتبنى بنيات تحتية متينة، ولتجهيز ورشات التكوين والمواكبة والتسويق، تلك العناوين التي تشكل نواة أي نمو حقيقي ومستدام.
لقد تحولت الحِرَف من مصدر بسيط للرزق إلى أفق رحب من الكرامة، حيث تتشبث الصانعة بزمام مصيرها، تغزل من ألياف عملها وشغفها ثوب اعتزاز يكسوها ثقة وعزة.
في هذا الفضاء، تنمو روح المبادرة، وتترسخ قيم العمل، ويغدو لكل امرأة قصتها، ولكل منتج فصول من تحدي وشغف وعطاء.
المخرز والغرزة: بوصلة هوية تُهدي الأجيال
وتتنوع مرافق دار الصانعة، بين ورشات للتكوين بالتدرج، مختبرات للإبداع، ومعارض تفتح آفاق التواصل والاحتفاء بالمجهودات.
لكن ما يميز هذا المكان هو ذلك الرابط العميق بين المرأة ومهارتها، بين الذاكرة الحية وأصابعها التي تروي الحكاية.
وتتقاطر هنا خيوط الأمل، وتتبلور الأشكال بلمسات أنثوية، تتحدى خطر الاندثار، وتغرس جذورًا عميقة في مستقبل يتنفس أصالة ويُزهر ابتكارًا.
وتتحول المنسوجات، المنتجات الجلدية، والتحف اليدوية إلى أكثر من مجرد سلع؛ تتحول إلى حكايات مرسومة بخيوط الحرير والصبر، تُخلد ذاكرة وطن وترسخ قيم التضامن والتواصل بين الأجيال. تتوشح كل قطعة بالفخر، وتحمل رسالة أمة تصنع ذاتها في معمل الإبداع المتجدد.
الإبداع والأنوثة: تلاقي روحين في قالب فني
تبوح ميمونة حمية، إحدى نساء دار الصانعة، بما في قلبها من اعتزاز بهذا الصرح الذي لم يفتح لها أبواب العمل وحسب، بل كان نافذة تطل منها على ذاتها، تُعيد بها صياغة وجودها وهويتها.
تقول ميمونة إن الفضاء أتاح لهن إنتاج أعمال تحمل عبق المكان وروح الزمان، عرضها بفخر وشغف، وعزز مكانتهن كفاعلات أساسيّات في رحلة المغرب الحديثة.
وتتجلى هنا قوة التمكين، تتجاوز حدود التقاليد الاقتصادية لتصبح رحلة وجودية تكسر قيود اللامرئي، وتغدو المرأة حاضرة بقوة في فضاءات صنع القرار، وفي قلب النسيج الاقتصادي والاجتماعي.

من الداخلة تشرق شمس الأمل
ما يُصنع في دار الصانعة ينقل رسالة إلى كل أرجاء المغرب، حاملة روح النموذج التنموي الجديد في الأقاليم الجنوبية.
ويصنع هذا المشروع مثالًا حيًا على أن التنمية الحقيقية لا تقاس بكميات الإسمنت، بقدر ما تقاس بحجم الكرامة التي تُبنى في النفوس، وبثبات الاستقلال الذي يحتضن الحُلم وينسجه بإصرار.
وتُعد الصناعة التقليدية هنا أكثر من مهنة، هي حكاية وطنية تنسج ألوانها من ذاكرة المكان، ويدٍ امرأة تجسد إرادة وعزمًا، وفضاء صغير يعكس قوة الجمال والأصالة التي تحفر في وجدان كل مغربي.
في صمت النساء وأصواتهن المبدعة ينهض الوطن، وتعود الحِرَف أسمى من مجرّد أدوات، لتصبح رافعة حقيقية في رحلة النمو والتطور.



