في قلب القاهرة، وعلى مقربة خطوتين من عظمة أهرامات الجيزة، يستعد العالم لموعد استثنائي سيُكتب في سجل التاريخ الثقافي: افتتاح المتحف المصري الكبير في فاتح نونبر المقبل. وبعد أن كان افتتاحه مؤجّلًا إلى الربع الأخير من العام الجاري، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي موافقة الرئيس عبد الفتاح السيسي على تحديد هذا اليوم ليكون لحظة ميلاد جديدة لصرح حضاري طال انتظاره. ويمتد المتحف على مساحة تقارب خمس مئة ألف متر مربع، جامعًا بين حداثة التصميم المعماري وروح الحضارة الفرعونية، ويعرض لأول مرة المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، محاطة بأحدث تقنيات العرض التفاعلي، لتقدّم للزائر تجربة لا تُنسى.
قلب التاريخ ومخزن الذاكرة
لا يُعدّ المتحف المصري مجرّد جدران تضم آثارًا فحسب، بل مرآة لخمسة آلاف عام من الإبداع الإنساني، من مومياوات الملوك إلى التماثيل الدقيقة الصنع. تأسس أولًا بحديقة الأزبكية عام 1835، ثم تنقّل بين مواقع عدّة، حتى استقرّ في ميدان التحرير في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، ليصير قلب التراث المصري النابض، محتضنًا أكثر من مئة وخمسين ألف قطعة أثرية.
ليلة الغضب: حين امتدت الأيدي إلى قلب الحضارة
بين صفحات التاريخ المشرقة، ثمة سطر قاتم كُتب في 28 يناير 2011، يوم “جمعة الغضب”، حين انسحبت قوات الشرطة من الشوارع في ذروة أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير. خلال ذلك اليوم العصيب ساد الانفلات الأمني، واندفعت موجات الفوضى نحو مؤسسات الدولة، وكان المتحف المصري في ميدان التحرير على مقربة من ألسنة اللهب التي التهمت مقر الحزب الوطني.
في تلك الساعات هرع متظاهرون لحماية المتحف، وشكّلوا بأجسادهم درعًا بشريًا لصون تراث مصر. ورغم ذلك، كشفت التحقيقات لاحقًا عن سرقة أربعٍ وخمسين قطعة أثرية، معظمها تماثيل صغيرة من البرونز والحجر، بينها قطع نادرة لتوت عنخ آمون وإخناتون ونفرتيتي. وظهرت مشاهد الزجاج المهشّم والتماثيل المحطّمة على شاشات العالم، شاهدةً على جُرح حضاري غائر.
نزيف التراث في زمن الفوضى
لم يقتصر النهب على المتحف المصري، بل امتدّ إلى مخازن أثرية ومقابر فرعونية وإسلامية في أنحاء البلاد، من القنطرة شرق وسقارة ودهشور، إلى تل بسطا والأقصر وأسوان. حتى المواقع الإسلامية التاريخية لم تسلم؛ فدُمّرت وكالات وخانات وسبل عتيقة، وتعرّضت دار المحفوظات لسرقة مقتنيات نادرة من الوثائق والعملات. وكانت تلك اللحظات اختبارًا قاسيًا لمدى وعي المجتمع بقيمة إرثه، وأطلقت تحذيرات دولية من اليونسكو بأن كنوز مصر في مهبّ الريح.
بين الأمس والغد… ذاكرة لا تموت
اليوم، وبينما يتهيّأ المتحف المصري الكبير لاستقبال العالم في أول أيام نونبر، تعود إلى الذاكرة تلك الليلة التي امتدّت فيها الأيدي إلى قلب التاريخ. لكنها تذكّرنا أيضًا أن الحضارة التي صمدت أمام الغزوات والكوارث قادرة على النهوض من جديد، محمولةً على إرادة شعب يدرك أن حماية التراث ليست رفاهية، بل حماية لهويته ووجوده. هكذا يظل المتحف المصري، بكل ما يحمله من جراح وأمجاد، شاهدًا على أن التاريخ قد يُنهب، لكنه لا يُمحى.
علاء البكري



