هل الباراسيتامول رفيقٌ آمنٌ للحوامل؟ وما علاقته بتوحّد الأطفال؟

- Advertisement -

منذ أن اعتلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنبر ليحذّر النساء الحوامل من تناول الباراسيتامول، ارتجّت وسائل الإعلام بجدل جديد حمل بين طيّاته الكثير من الخوف والريبة. وأعاد حديثه، عن زيادة كبيرة جدًّا في خطر إصابة الأطفال بالتوحّد، إلى السطح نقاشًا طبيًا قديمًا، لكنه نقاش لم يحسمه السياسيون ولا التصريحات المثيرة، بقدر ما فصل فيه العلم، بالأدلّة والدراسات.

حين يختلط السياسي بالعلمي

لم يأتِ تحذير ترامب من فراغ؛ فقد سبق أن شهد الوسط الطبي، منذ مطلع الألفية، سجالات حول هذا الدواء الشائع المعروف أيضًا بالأسيتامينوفين. في تلك الفترة، خرجت أصوات تطالب بتوخّي الحذر، ونُشر مقال وقّعه مئة باحث في مجلة نيتشر ريفيوز إندوكرينولوجي يدعو إلى تنبيه الحوامل بعدم اللجوء إلى الباراسيتامول إلا عند الحاجة القصوى. ورغم قوّة الخطاب، قوبل المقال بانتقادات واسعة، إذ اعتبره خبراء مبالغة تزرع القلق أكثر ممّا تقدّم حقائق ثابتة.

جذور المخاوف

ما غذّى هذه الريبة دراسات وبائية ربطت بين تناول الباراسيتامول أثناء الحمل وبين اضطرابات عصبية لاحقة لدى الأطفال. وأشارت دراسة دنماركية شهيرة نُشرت عام 2015 إلى احتمال ارتفاع خطر التوحّد بنسبة 50%. وبعدها بعقد تقريبًا، نشر باحثون مراجعة لأربعين دراسة دعمت هذه الفرضية، وهو ما جعل الملف يستعيد حضوره الإعلامي بقوّة. غير أنّ هذه الأبحاث، رغم صداها، عانت من قصور منهجي: هل المشكلة في الدواء نفسه، أم في الظروف الصحية التي دفعت الأم إلى تناوله؟ أكان الدواء سببًا مباشرًا، أم مجرّد شاهد على معركة مرضية أوسع؟

العلم يردّ

في مواجهة هذه الضبابية، جاءت دراسة سويدية واسعة نُشرت سنة 2024 في مجلة الجمعية الطبية الأميركية لتضع النقاط على الحروف. فقد حلّلت معطيات آلاف الحالات، ودرست تأثير العوامل الوراثية والبيئية، كما قارنت بين أطفال من العائلة الواحدة لتقليص التحيّزات. وكانت النتيجة حاسمة: لا وجود لزيادة في خطر التوحّد أو التخلف العقلي أو اضطراب نقص الانتباه لدى الأطفال الذين تناولت أمّهاتهم الباراسيتامول خلال الحمل.

الموقف الرسمي

بدورها، أكّدت منظمة الصحة العالمية أن الأدلة المتوافرة متضاربة وغير قاطعة، فيما جددت وكالة الأدوية الأوروبية توصيتها القديمة: يمكن للحوامل تناول الباراسيتامول، شرط أن يكون بالجرعة الدنيا الفعّالة ولأقصر مدة ممكنة. أمّا البدائل الأخرى كالإيبوبروفين والأسبرين، فمحظورة في مراحل متقدّمة من الحمل بسبب أخطارها المؤكّدة على الجنين.

أبعد من الدواء: قلق الأمهات

بعيدًا عن الأرقام والتوصيات، يبقى الأثر النفسي لهذه التصريحات هو الأعمق. فالمرأة الحامل، التي تحمل حياةً في أحشائها، تعيش لحظةً من القلق عند كل خبر أو دراسة تُتداول، ويكفي عنوان مثير ليزرع في قلبها خوفًا مضاعفًا. وهنا تتجلّى مسؤولية العلماء والإعلام معًا: تقديم المعرفة بهدوء، ونزع فتيل الهلع الذي تُذكيه الكلمات السريعة والتصريحات غير المدروسة.

الخلاصة: الاعتدال مفتاح السلامة

بين مخاوف مشتعلة وأبحاث رصينة، وبين خطابات سياسية مثيرة للجدل وحقائق علمية متينة، يظل الباراسيتامول حاضرًا في رفوف الصيدليات كأكثر المسكنات أمانًا للحوامل. وما بين الخوف والطمأنة، يبقى صوت العلم أوثق من أي خطاب عابر، ليقول بوضوح: الاعتدال في الجرعة هو مفتاح السلامة، أمّا الهلع فلا يزيد الحمل إلا ثِقلاً فوق ثِقل.

علاء البكري