العرق ثمن الكرامة: النساء بين لقمة العيش واستغلال الأجور

- Advertisement -

داخل جدران المصانع المغربية المزدحمة بصدى العمل، يتردّد صدى ماكيناتٍ لا تنام، وأصوات نساءٍ ينسجنَ الحلم من خيوط التعب. 
وجوهٌ أنهكها السهر والعمل الطويل، لكنها تمضي كل صباح بثوب الأمل ذاته، تُمسك بخيطٍ من الكرامة لتؤمّن لقمة العيش في واقعٍ يزداد هشاشةً كل يوم.
وراء كل قطعة نسيج تُصدّر، وكل سلعة تُغلف، تقف امرأة مغربية تُعيل أسرةً وتُبقي على شرف العيش الكريم، لكنها غالبًا ما تدفع الثمن مضاعفًا: عرقا في الجسد، وتبعا في النفس، وخصمًا في الأجر.

الوجه الخفي للنمو الصناعي

يُقدَّر أن النساء يُشكّلن نحو 30٪ من القوى العاملة في المغرب، لكن نصيبهنّ من فرص العمل المستقرّة لا يتجاوز حدود القطاعات التي تعتمد على اليد العاملة الرخيصة، مثل النسيج، والتغليف، والصناعات الغذائية.
في هذه المجالات، تتخذ التنمية الاقتصادية وجهًا مزدوجًا: وجهٌ مزدان بالإنتاج والتصدير، وآخر يخفي هشاشة عقود العمل، وتفاوت الأجور، وغياب الحماية الاجتماعية.
ففي تقريرٍ حديث، كشفت بيانات رسمية أنّ النساء في القطاع الخاص يتقاضين أجورًا تقل بنسبة 42.8٪ عن الرجال في الوظائف نفسها، رغم المؤهلات المماثلة. 
ويعزو خبراء الاقتصاد هذه الفجوة إلى بنية سوق الشغل نفسها، حيث تُحصر النساء في المراتب الدنيا من السلم المهني، وتُحجب عنهن فرص الترقية والتكوين المستمر.

بين الاستغلال والصمت: هشاشة العقود وحُلم الأمان

العقود المؤقتة أصبحت القاعدة لا الاستثناء في كثير من المصانع، وتُظهر تقارير منظمات دولية أنّ أغلب العاملات في الصناعة لا يتمتعن بأي تغطية اجتماعية حقيقية.
ضعف الرقابة النقابية يفاقم حالة الاستغلال، حيث تُسجَّل مخالفات تتعلق بساعات العمل، والعطل غير المؤدّاة، وغياب التأمين على الحوادث المهنية.

الكرامة في مواجهة السياسات الاقتصادية

منذ إطلاق النموذج التنموي الجديد، تعهّد المغرب بتقليص الفوارق الاجتماعية، وتعزيز مشاركة النساء في الاقتصاد الوطني. 
غير أن الواقع يُظهر أن السياسات التشغيلية لم تترجم بعد هذا الطموح على أرض المصانع.
فالاستثمار في الصناعات التصديرية يعتمد إلى حدّ كبير على اليد العاملة النسائية ذات الأجور المنخفضة، ما يجعل من المرأة عاملاً أساسياً في دورة الإنتاج، دون أن تكون شريكة حقيقية في ثمار التنمية.
ويُحذّر خبراء الاقتصاد والاجتماع من أن استمرار هذا الوضع يعمّق هشاشة الطبقة العاملة النسائية، ويُضعف العدالة الجندرية التي يشكّل تحقيقها أحد ركائز التنمية المستدامة.
فالتنمية التي تُبنى على تعب النساء دون ضمان كرامتهنّ، تظلّ ناقصة المعنى ومبتورة الروح.

من الإصلاح إلى العدالة: الطريق الممكن

العدالة في الأجور حقٌّ إنسانيّ يرسّخ مبدأ المساواة، ويُجسّد أكثر من مجرد مطلب نقابي.
ولتحقيق ذلك، يرى خبراء السياسات العمومية أن الحل يبدأ من إصلاح منظومة العقود المؤقتة، وفرض آليات شفافة للمراقبة داخل المؤسسات الصناعية، إضافةً إلى دعم النقابات النسائية المستقلة، وتوسيع برامج الحماية الاجتماعية لتشمل العاملات في القطاع غير المهيكل.
كما أن تعميم التأمين الإجباري عن المرض، وإدماج النساء في منظومة التقاعد خطوة أساسية لردم الفجوة الاقتصادية بين الجنسين.
يحتاج سوق الشغل المغربي إلى رؤية إنسانية تُثمّن العرق وتحمي الكرامة، لا الاقتصار على اليد العاملة النسائية فقط.

العرق المكتوم والكرامة التي لا تُقدّر بثمن

في نهاية اليوم، حين تُطفأ أضواء المصانع، وتغادر النساء بخطواتٍ متعبة نحو بيوتهن، لا أحد يدوّن على ورقة الحساب ثمن الصبر ولا تكلفة الكرامة.
لكن خلف كل درهمٍ تُجنى، تختبئ قصة نضالٍ يومي ضد التهميش، ورغبة عنيدة في الحياة الكريمة.
إن العرق الذي يُسكب في صمتٍ من أجل لقمة العيش يجب أن يُصان في كرامة العاملات ويُحفظ لهن.
علاء البكري