لا تظهر الحقيقة كاملة في الإعلانات التي تروج لفرص العمل في مصانع الكابلاج المنتشرة على أطراف المدن المغربية.
خلف جدران هذه المنشآت الصناعية، تقف آلاف النساء لساعات طويلة تحت ضغط الوقت والرقابة، وهن يركبن الأسلاك الكهربائية بدقة متناهية، في بيئة عمل قاسية لا تراعي هشاشة أجسادهن ولا احتياجاتهن النفسية، وفق ما أفادت به النساء العاملات بهذه المصانع.
في هذه المصانع، لا تقاس المعاناة فقط بضعف الأجور أو طول ساعات العمل، بل بما تخلفه هذه الظروف من آثار صحية ونفسية عميقة، تتجاوز حدود المصنع إلى داخل البيوت والعلاقات الأسرية.
ضغط العمل وتأثيره على الصحة النفسية
تواجه النساء العاملات في مصانع الكابلاج مستوى مرتفعًا من الضغط النفسي المزمن، نتيجة مزيج من العوامل: المراقبة الصارمة، العمل الروتيني الرتيب، غياب فترات الراحة الكافية، وساعات العمل الطويلة.
وبهذا الخصوص، تقول بشرى المرابطي، أخصائية نفسية وباحثة في علم النفس الاجتماعي، في تصريح لـ”مجلة فرح”، إن بيئة العمل، التي تتطلب جهدا بذنيا، لها أثر مباشر على التوازن النفسي والعقلي للعاملات.
وأضافت :” نعلم من خلال دراسات في علم النفس، أن ظروف العمل غير الآمنة والمليئة بالضغوط تترك آثارًا واضحة على الصحة النفسية والجسدية، حيث تظهر هذه التأثيرات على شكل قلق مستمر، اضطرابات في النوم، توتر مزمن، إرهاق ذهني وجسدي، وقد تصل إلى أمراض جسدية ناتجة عن الضغط النفسي، مثل الصداع النصفي، اضطرابات الجهاز الهضمي، ومشاكل جلدية، وهو ما يعرف بالاضطرابات “السيكوسوماتية” أو” “النفسجدية”.
المرأة الأكثر تأثرا: التوازن بين العمل والحياة الشخصية
تضيف الأخصائية النفسية أن التأثير لا يقتصر على النساء فقط كأفراد، بل يمتد ليشمل الأسرة بأكملها.
المرأة العاملة، خاصة إذا كانت أمّا أو زوجة، تتأثر بشكل مضاعف. فهي لا تعاني فقط من ضغوط المصنع، بل تعود إلى بيتها منهكة، دون القدرة على أداء دورها الأسري.
هذا الخلل ينعكس على علاقتها بزوجها وأبنائها، ويخلق توترات أسرية واضحة.
كما أن تأثيره قد يظهر حتى على الأطفال في المدرسة، من خلال سلوكياتهم المضطربة.
أثر الصمت: من المصنع إلى الأسرة
نتائج هذا الصمت لا تظهر فقط على العاملات، بل على الأبناء أيضًا.
تشير المرابطي إلى أن بعض الأطفال الذين يعيشون في بيوت تعاني فيها الأمهات من ضغوط نفسية مهنية مزمنة، تظهر عليهم علامات القلق أو الاضطرابات السلوكية، والتي يلاحظها الأساتذة في المدارس، مشيرة إلى أن “الضغط لا يبقى داخل جدران المصنع، بل يتسرّب إلى البيت، ويعيد تشكيل العلاقات الأسرية كلها”.
التحرش والتمييز: واقع صامت رغم القوانين
ورغم التقدم الحاصل في القوانين المناهضة للتحرش والعنف ضد النساء في المغرب، إلا أن الواقع في كثير من المصانع لا يزال معقدًا.
التحرش في بيئة العمل حتى وإن انخفضت مظاهره مقارنة بالسابق لا يزال حاضرا بصيغ متعددة، وسط ضعف الوعي القانوني لدى العاملات بالمصانع.
وبهذا الخصوص، أفادت المرابطي بأن الثقافة المجتمعية بدأت تتغير نحو رفض سلوكيات التحرش، خاصة بعد صدور قوانين واضحة، ولكن الإشكال الحقيقي هو أن كثيرًا من النساء لا يعرفن الإجراءات التي ينبغي اتباعها في حال تعرضهن للتحرش، مبرزة أن هذا الجهل “يخلق لديهن شعورا بالخوف والدونية، ويجعلهن ينظرن إلى المتحرش كصاحب سلطة لا يمكن مواجهته”.
وتؤكد الأخصائية النفسية والباحثة في علم النفس الاجتماعي، أن الحل يكمن في التوعية حين تمتلك المرأة المعرفة القانونية، وتعرف كيف تحمي نفسها، لكي تتحول من ضحية إلى فاعلة قادرة على المواجهة. يجب أن تصل حملات التوعية القانونية والنفسية إلى المصانع، خاصة في صفوف العاملات ذوات المستوى التعليمي المحدود”.
إيمان البدري



