مع حلول شهر محرم من كل عام، تتحول الأزقة والأسواق الشعبية المغربية إلى مسرح مفتوح للفرح والذكرى، حيث تحتل “الطعريجة” مكانتها كملكة الاحتفال بلا منازع، معلنةً بدء طقوس عاشوراء التي لا تشبه غيرها في العالم الإسلامي.
لا تكاد تخلو يد طفل أو صوت امرأة من وقع هذا الإيقاع الشعبي، الذي يختصر حنين المغاربة لجذورهم العميقة في الفرح الجماعي، ويحوّل ذكرى عاشوراء من مناسبة دينية صامتة إلى احتفال صاخب بالأهازيج والألوان والحياة.
دوار الحشالفة.. مهد “الطعريجة”
ووراء كل “طعريجة” تصل إلى الأسواق، هناك حكاية فنية تبدأ من تراب دوار الحشالفة التابع للجماعة القروية لأولاد احسين، جنوب الجديدة، حيث يحافظ صناع تقليديون كثر على سرّ الصناعة التي لم تنقطع خيوطها منذ عقود طويلة.
وفي هذا الشأن، يقول مصطفى أبو معروف، رئيس تعاونية “خير الفخار”، إن دوار الحشالفة يُعد القلب النابض لصناعة الطعريجة بالمغرب، حيث يتجاوز عدد الصناع فيه المائة، يعملون على تحويل كتل الطين إلى دقات فرح تملأ أحياء المغرب من شماله إلى جنوبه.
حرفة من التراب.. وموسيقى من الذاكرة
وتنطلق رحلة الطعريجة من التربة الطينية التي تُجلب خصيصًا من ضفاف آسفي، حيث تُعالج وتُخمّر وتُطوّع بأنامل خبراء في الفخار.
يقص أبو معروف تفاصيل العملية بدقة: “نفتت التربة، نتركها تتخمّر في الماء، ثم تُجفف قبل أن تُشكّل قوالبها على آلات التدوير”.
بعدها يأتي دور تجار متخصصين يشترون القوالب، فيتولّون تجليدها بجلد رقيق وتزيينها برسومات وألوان تنبض بالحياة، لتكتمل الرحلة من حفنة تراب إلى آلة موسيقية تنقل روح عاشوراء إلى أحياء المدن والقرى.
تقليد يفتح بيوتًا
تُشغّل صناعة الطعريجة عشرات الأسر في المنطقة، رجالًا ونساءً، وحتى شبابًا وأطفالًا، كلٌ له مهمة دقيقة في هذه السلسلة الفنية المتوارثة؛ من نقع الطين وتجهيزه، إلى القولبة، ثم التجليد والرسم.
يقول رشيد جياط، المكلف بالتعاونيات في المديرية الإقليمية للصناعة التقليدية بالجديدة، إن “هذا القطاع ليس فقط موروثًا ثقافيًا، بل مورد رزق لعائلات كثيرة”.
بين الحداثة والأصالة
وحفاظًا على هذه الحرفة من الانقراض، تعمل المديرية الإقليمية للصناعة التقليدية، بشراكة مع وزارة السياحة والاقتصاد الاجتماعي، على تحديث وسائل الإنتاج.
فقد تم تخصيص 10.5 مليون درهم لاقتناء أفرنة غازية صديقة للبيئة بدل الأفرنة التقليدية، مما يساهم في تحسين جودة الإنتاج وحماية صحة الصناع.
وقد جرى بالفعل تسليم أول دفعة من هذه الأفرنة وعددها 16 فرنا، مع دفعة ثانية قيد التسليم، في خطوة لتحديث القطاع وضمان ديمومته للأجيال المقبلة.
إيقاع لا يموت
ورغم تغيّر الأجيال وتبدّل العادات، ظلت “الطعريجة” صامدة، تنبض بالإيقاع ذاته الذي دوّى في الأزقة قبل مئات السنين، لتظلّ عاشوراء بالمغرب موعدًا لفرحٍ شعبيٍ لا يموت، تُطرّزه أصوات الأطفال وهم يدقّون إيقاعاتهم على قوالب الفخار التي ولِدت في صمت الأفران وتُزهر على أكتاف الأحياء الشعبية.



