عمر الخيام: شاعر الفلسفة وحجة الرياضيين

- Advertisement -

قبل أكثر من تسعة قرون، في مدينة نيسابور، وُلد عالمٌ وشاعرٌ ظلّت أسئلته معلّقة بين صفحات التاريخ، يقرؤها كل جيل بوجه جديد. إنه عمر الخيام، الذي جمع بين دقة الأرقام وغموض الوجود، بين المعادلات والرباعيات، ليصبح رمزًا للشاعر الفيلسوف، وعالِم الرياضيات الذي سبق عصره.

رباعيات الخيام.. قصائد قصيرة تسائل الوجود

ولعل أشهر ما نُسب إلى الخيام هو ديوانه المسمّى بـ«الرباعيات»؛ مقطوعات شعرية من أربعة أبيات، خفيفة اللغة، عميقة المعنى.

وعلى الرغم من أن ما نُسب إليه تجاوز الألفي رباعية، يؤكد المؤرخون أنه لم يكتب منها يقينًا سوى أقل من مئتي رباعية، لكن وقعها في النفس بقي خالدًا.

تنساب رباعيات الخيام بعبارات سهلة وألفاظ مألوفة، تستحضر القدح، والكأس، والصراحي (الأواني الزجاجية التي يُحفظ فيها الخمر)، لتبث أسئلة كبرى عن العمر، والمصير، والعدم، والجبر والاختيار. وهي أسئلة لم يبدأ بها الخيام ولم يُنهِها، لكنها منحته مكانة بين كبار المتصوّفة والشعراء الفلاسفة.

فلسفة حياة.. أم اتهام بالزندقة؟

ما زال النقاش محتدمًا حتى اليوم: هل كان الخيام مجرّد شاعر يحتسي الخمر ويهجو الزهد والورع؟ أم كان مفكرًا متأملًا يستعير الخمرة والكأس رموزًا لأسئلة أعمق؟

تقول بعض الروايات الملفّقة إنه نظم بعض رباعياته وهو يتندر على الشراب، بينما تُظهر أشعاره نبرة صوفية رفيعة:

«سبقتُ السائرين إلى المعالي بثاقب فكرةٍ وعلوّ همة».

«إن لم أكن أخلصت في طاعتك فإنني أطمع في رحمتك».

ويذهب باحثون إلى أن رمزية الشراب عند الخيام لم تكن إلا استعارةً للمعرفة والأنوار الإلهية، استلهمها من ابن سينا وغيره من فلاسفة الإسلام، وأن مَن جاء بعده اختلط عليه الفلسفي بالخرافي، فتسرّبت إليه رباعيات دخيلة، حتى إن بعض الترجمات الغربية أعادت تقديمه بصورة تليق بذائقة غربية وجدت في الخمر والكأس صورة شاعرية جذابة.

من الجبر إلى السماء… عبقرية متعددة الوجوه

لكن الخيام لم يكن شاعرًا فقط، بل كان من ألمع العقول العلمية في زمانه. فهو أوّل من قسّم المعادلات التكعيبية إلى أنواع وحلّها باستخدام القطوع المخروطية، ليؤسس بذرة الهندسة التحليلية قبل ديكارت بقرون.

وحين احتاجت الدولة السلجوقية إلى تصحيح تقويمها، عهد السلطان ملك شاه إليه بناء مرصد أصفهان وصوغ تقويم دقيق، سبق عصره بدقته الحسابية.

وعُرف عن الخيام اطلاعه العميق على الفقه والحديث والمنطق والفلسفة، وخلّدته مؤلفاته العربية في الجبر والمقابلات وشرح مصادرات إقليدس.

أما رباعياته الفارسية فقد بقيت وحيدة بين كتبه في لغة قومه، لكنها وحدها كانت كافية لتخلّد اسمه في الأدب العالمي.

ترجمات فتحت الأبواب

لم يعرف الغرب رباعيات الخيام إلا في القرن التاسع عشر، حين ترجمها الشاعر الإنجليزي إدوارد فيتزجيرالد، فتلقّفها القراء كواحدة من أعمق النصوص التأملية.

يقول عنها فيتزجيرالد: «إنها شعر معجز في معانيه التأملية وإيقاعاته الموسيقية».

ومن الإنجليزية تُرجمت إلى لغات العالم، لتصبح قصائد الخيام من بين الأشهر عالميًا.

https://www.youtube.com/watch?v=sfQVM70tG1A

أين يقع قبر الشاعر؟

ويبقى الخيام لغزًا حتى بعد موته. يُروى أنه قال ذات يوم: «سيكون قبري في موضع تؤرّجه ريح الشمال بشذى الورد كل ربيع».

وبعد سنوات من وفاته، يقول البيهقي إنه زار قبره فوجد الورد يظلّله بالفعل في ربيع نيسابور.

أسئلة بلا أجوبة

ما بين الرياضيات والفلك والشعر والفلسفة، ظلّت شخصية الخيام متشظية. هل كان شاعر الرباعيات هو نفسه حجة الرياضيين؟ أم تداخلت الأقوال والأسماء حتى صار الخيام أيقونة جامعة؟

قد لا نجد جوابًا حاسمًا، لكن يكفينا أن نقرأ رباعياته لنلمس هواجسه التي تشبه هواجس الإنسان في كل زمان: أسئلة عن الحياة والموت، عن الخلق والمصير، عن معنى أن يكون الإنسان ذرة غبار في كونٍ لا ينتهي.

وهكذا، يظل عمر الخيام شاعرًا، فيلسوفًا، عالمًا، وحائرًا… تمامًا ككل من يقرأه حتى اليوم.

علاء البكري