علاء البكري
في الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه عرش أسلافه المنعمين، وجّه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مساء يوم الثلاثاء 30 يوليوز الجاري، خطابًا ساميًا إلى شعبه الوفي، أعاد فيه تأكيد ثوابت المشروع الوطني الذي يقوده منذ ربع قرن، وفتح نافذة جديدة على مغرب المستقبل؛ مغرب التنمية العادلة، والنموذج الاقتصادي الصاعد، والعدالة المجالية التي لا تترك أحدًا خلف الركب.
لحظة محاسبة وصدق سياسي
من على منصة التقاليد العريقة، عاد العاهل المغربي ليضع النبض على قلب الوطن، ويدعو إلى مراجعة عميقة في منطق التنمية، بما يكفل للمغرب أن يكون بلدًا موحدًا لا يعرف ازدواجية الإيقاع بين المركز والأطراف، ولا يقبل بأن تظل فئات من المواطنين في مناطق الظل تعاني الفقر والهشاشة في زمن الإنجازات والتحولات الكبرى.
الخطاب الملكي، الذي ألقاه جلالته من مدينة تطوان، لم يكن مجرد محطة احتفالية بذكرى البيعة، بل لحظة محاسبة شفافة وواقعية، وقف فيها الملك على ما تحقق من مكتسبات، وما ينبغي تداركه من اختلالات، مؤكداً أن “ما حققته بلادنا لم يكن وليد الصدفة، وإنما هو ثمرة رؤية بعيدة المدى، واختيارات تنموية رصينة، في ظل أمن واستقرار سياسي ومؤسسي متين”.
الاقتصاد في خدمة الإنسان لا المؤشرات
وبنبرة حاسمة، قال جلالة الملك: “لن أكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات”.
بهذا الوضوح الأخلاقي والسياسي، وضع الملك معيارًا جديدًا لنجاح السياسات العمومية: ليس النمو في حد ذاته، وإنما أثره المباشر على كرامة المواطن اليومية.
أكد جلالته أن المغرب اليوم يشهد نهضة صناعية واقتصادية غير مسبوقة، حيث تضاعفت الصادرات الصناعية منذ عام 2014، لتجعل من قطاعات مثل السيارات والطيران والصناعات الغذائية والطاقات المتجددة والسياحة روافع أساسية للاقتصاد الوطني.
كما أبرز العاهل المغربي انخراط المملكة في مشاريع استراتيجية كبرى، منها توسيع شبكة القطار فائق السرعة بين القنيطرة ومراكش، وتوطيد السيادة الطاقية والمائية، وتوسيع اتفاقيات التبادل الحر التي تربط المغرب بثلاثة ملايير مستهلك حول العالم.
مغرب واحد بعدالة واحدة
إلا أن خطاب العرش لم يغفل المناطق التي لم تنل بعد نصيبها من ثمار التنمية، حيث أشار جلالة الملك إلى أن “بعض المناطق، لا سيما في العالم القروي، ما تزال تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية”. وهو ما يستدعي ـ بحسب الملك ـ “نقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية، وتدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية، والانتقال من المقاربات التقليدية إلى رؤية مندمجة تضع المواطن في قلب السياسات العمومية”.
بين مؤشرات الأمل وضرورات الاستمرار
وتوقف الملك محمد السادس عند مؤشرات مهمة في التحول المجتمعي، أبرزها تراجع معدل الفقر متعدد الأبعاد من 11,9% سنة 2014 إلى 6,8% سنة 2024، وتجاوز عتبة مؤشر التنمية البشرية، ليصبح المغرب ضمن فئة الدول ذات التنمية البشرية العالية.
لكنه في الوقت ذاته، حذر من مغبة الوقوف عند حدود الأرقام، داعيًا إلى جعل التنمية البشرية قضية ملموسة في حياة الناس، لا مجرد مؤشرات في التقارير.
الشفافية الانتخابية والتزام بالدستور
سياسيًا، حرص جلالة الملك على تأكيد الالتزام بالموعد الدستوري للانتخابات التشريعية المقبلة، ودعا الحكومة إلى إعداد الإطار القانوني المؤطر لها قبل نهاية السنة الجارية، بما يضمن وضوح الرؤية والمصداقية السياسية والمؤسساتية، ويفتح المجال أمام مشاورات ديمقراطية مسؤولة.
اليد الممدودة مرة أخرى
أما على مستوى العلاقات الخارجية، فقد جدّد جلالة الملك دعوته الصادقة إلى تجاوز الخلافات مع الجارة الجزائر، مشددًا على أن “الشعب الجزائري شعب شقيق”، وأن المغرب يظل منفتحًا على “حوار صريح ومسؤول”، إيمانًا بوحدة المصير المغاربي، الذي لا يستقيم دون تعاون بين الرباط والجزائر.
وفي ختام خطابه السامي، عبّر الملك عن اعتزازه بالدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وذي مصداقية لنزاع الصحراء المغربية، مثمنًا مواقف دول صديقة كالمملكة المتحدة والبرتغال، ومؤكدًا على أن “إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، هو السبيل إلى تجاوز الجمود والاحتكام إلى منطق الحكمة”.
من مغرب النمو إلى مغرب العدالة
هكذا بدا خطاب العرش لهذه السنة دعوة صريحة للانتقال من مغرب النمو إلى مغرب العدالة، ومن الإنجاز إلى التوزيع العادل للثروة، ومن السياسة التنموية إلى التنمية السياسية العميقة، حيث المواطن هو الهدف، والمغرب الواحد هو الأفق الذي لا يقبل التعدد في السرعات ولا في الفرص.



