في عالم تتقاطع فيه الحواس، وتتمازج فيه الحكاية مع الرمز، تبرز رجاء اشاوي كصوت فني وروحي فريد. فنانة عصامية، معالجة، وأستاذة يوغا، تبلغ من العمر 35 سنة، جعلت من تجربتها الحياتية ومجال بحثها عن الذات مصدرَ إلهامٍ لأعمال تشبه الأحلام في شفافيتها وعمقها. من الرباط إلى الهند، ومن إندونيسيا إلى نيبال، نسجت رجاء رحلةً داخليةً عميقة، تُرجمَت إلى لوحات تتنفس، وتتكلم بلغة القلب والرمز.
في هذا الحوار الخاص مع مجلة فرح، تأخذنا رجاء في جولةٍ عبر عوالمها الفنية والروحية، وتحكي لنا عن البدايات، عن نقطة التحول، وعن الشغف الذي قادها لتحوّل الفن إلى طقسٍ للشفاء، ومن الرماد إلى جمال متجدد.
كيف كانت بدايتكِ مع الفن التشكيلي؟ وهل هناك لحظة معينة شكّلت نقطة تحول في مسيرتكِ؟
بدأت علاقتي بالفن منذ الطفولة، حين كنت أستخدم الألوان كوسيلة لفهم العالم من حولي، والتعبير عمّا لا أستطيع قوله بالكلمات. أما نقطة التحول، فكانت عندما مررتُ بتجربة إنسانية عميقة قلبت رؤيتي للحياة، وجعلت من الفن طقسًا وجوديًا، وشكلًا من أشكال الشفاء الداخلي.
ما الذي ألهمكِ لاختيار الفن طريقًا للتعبير والتواصل؟
الفن هو اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة، والتي تخرج من القلب وتدخل القلوب. ألهمتني فيه قدرته على الكشف، وعلى لمس العوالم الخفية داخلنا. اخترته لأنني وجدت فيه وسيلة صادقة، حسية، روحية وعقلية، لطرح الأسئلة الكبرى والتواصل مع الآخر من العمق.
كيف تصفين أسلوبكِ الفني؟ وما أبرز التقنيات التي تعتمدين عليها في لوحاتكِ التشكيلية؟
أسلوبي مزيج من التعبيرية والرمزية، ويميل إلى التجريد أحيانًا حين تعجز التفاصيل عن نقل الحالة الشعورية. أستخدم خامات مختلفة، وأميل إلى تقنية الطبقات، حيث تتداخل الألوان والمواد مثل طبقات الوعي والذاكرة. أحب اللعب بالنور والظل، وأُقحم أحيانًا نصوصًا أو رموزًا قديمة لإضافة بُعد ثقافي وروحي إلى اللوحة الفنية.
ما المواضيع أو القضايا التي تحرصين على تناولها في أعمالك؟
أُعنى بالإنسان ككائنٍ روحي يتقاطع فيه الجسد مع الذاكرة، والرمز مع الجرح. أتناول قضايا الهوية، والألم، والتحول، والشفاء. تشغلني علاقة الإنسان بالكون، وباللامرئي، وأسعى دائمًا لكشف ما وراء السطح، لرؤية ما لا يُرى.

هل تفضلين العمل وفق موضوع محدد، أم تدعين الحالة الشعورية تقودك؟
أرسم حين لا أجد مفرًّا من الرسم. لا أختار الموضوع دائمًا، بل هو من يختارني. أترك نفسي تقودها الحالة الشعورية، لكنها كثيرًا ما تنفتح على رموز وأفكار واضحة تحتاج إلى البناء حولها. بين العفوية والتأمل، يتشكّل طريق العمل الفني تدريجيًا.
من هم الفنانون الذين أثّروا فيكِ، محليًا أو عالميًا؟
أكثر فنان ترك أثرًا داخليًا في رؤيتي هو عباس صلادي، ليس فقط بسبب لغته البصرية الفريدة، بل لأنني أجد نفسي في حكايته، في تلك الغربة التي عاشها، وفي رغبته في تحويل الذاكرة والرمز والأسطورة إلى كائنات تشكيلية حيّة. صلادي لم يرسم الواقع كما هو، بل كما تشعر به الأرواح في الحلم. وقد ألهمني أن أذهب إلى ما وراء الشكل، إلى العوالم التي لا تُنقل إلا بالقلب والرمز.
إلى أي مدى يعكس فنكِ هويتكِ الثقافية والاجتماعية؟
فني مرآة لروحي، والروح لا تُخلق في فراغ. أنا ابنة أرض وثقافة وتجربة، وكل ذلك يتسلل إلى لوحاتي. سواء عبر الرموز أو الأنماط أو الألوان، أحاول دائمًا استحضار ذاكرة الأجداد، صدى الحكايات القديمة، وملامح نساء يحملن في صمتهن تاريخًا كاملًا.
برأيكِ، ما الدور الذي يجب أن يلعبه الفنان التشكيلي في مجتمعه؟
الفنان ليس مجرد صانع جمال، بل هو حامل رؤية، ومرآة الوعي الجمعي. دوره أن يُوقظ، أن يُسائل، وأن يعبر الجسور بين الفردي والجماعي، بين الحاضر والذاكرة. في زمنٍ باتت فيه الحقيقة مُجزأة، يُصبح الفن وسيلة لإعادة تجميع المعنى. الفنان شاهد، لكنه أيضًا مشعل للخيال والاحتمال.

كيف تتعاملين مع التلقي الجماهيري؟ وهل يهمكِ رأي الجمهور والنقاد؟
أتلقى آراء الجمهور باحترام، لكنها لا تقودني. أنا مخلصة أولًا للحقيقة الداخلية التي تدفعني للرسم. حين أضع العمل أمام الناس، لا أبحث عن الإعجاب، بل عن الصدى. ما يهمني هو أن يشعر المتلقي بأنه رأى نفسه، أو وجعه، أو حلمه فيما رسمت. أما النقد، فأقدّره حين ينبع من فهمٍ عميق، لا من مقاييس جاهزة.
ما أبرز المعارض التي شاركتِ فيها؟
شاركتُ في معارض جماعية وفردية داخل المغرب وخارجه. كانت كلها تجارب غنية، لكن ما يبقى في الذاكرة هو كل لحظة التقيتُ فيها بشخص تأثّر بعملي بصدق. بالنسبة لي، المعرض الحقيقي يحدث حين تتلاقى نظرتان: نظرتي كفنانة، ونظرة المتلقي الباحث عن أثر أو جواب.
بصفتك امرأة، هل واجهتِ صعوبات في مجال الفن؟ وكيف تجاوزتِها؟
كوني امرأة جعلني ذلك أُقابل أحيانًا بنظرات مشروطة أو تقليدية، لكنني لم أسمح لذلك بأن يحدّ من صوتي. واجهتُ التحديات بالصبر والإصرار، وبأن أُصغي لداخلي أكثر من الخارج. الفن الصادق يكسر كل الحواجز، بما فيها تلك المبنية على النوع أو الأصل.

هل هناك عمل فني تعتبرينه الأقرب إلى قلبك؟ ولماذا؟
كل عمل يولد من لحظة وجع أو كشف يكون قريبًا إلى القلب، لكن إن كان عليّ أن أختار، فهو ذاك الذي رسمته وأنا في حالة انسلاخ عن الواقع، في حالة كنتُ فيها أقرب إلى الحلم أو إلى الرؤيا. ربما لأنني، مثل صلادي، أؤمن بأن الفنان لا يرسم بيديه فقط، بل بحواسه، بذاكرته، وبألمه.
كيف ترين واقع الفن التشكيلي في العالم العربي اليوم؟
الفن العربي يعيش بين حدّين: من جهة، هناك حيوية متزايدة ووعي جديد، ومن جهة أخرى، لا يزال محاصرًا أحيانًا بالسطحية أو الاستهلاك. لكنني مؤمنة بأن الموجة العميقة قادمة، لأن هناك جيلًا جديدًا لا يرضى بالتقليد ولا بالترفيه فقط، بل يبحث عن المعنى، عن الحقيقة، وعن الصدق.
حوار إيمان البدري



