“أجازه” فقيه حنبلي قبل قرنين ورفضته جامعة باريس ومنعته كنائس الغرب.. كيف أهدى العثمانيون التطعيم إلى العالم؟
قبل أكثر من مئتيْ عام؛ اكتفى الفقيه الحنبلي الشيخ حمد ابن مُعمّر النجدي (ت 1225هـ/1810م) بالإفتاء بكراهة نوع من التطعيم التقليدي ضد الجُدَري كان يفعله الناس في منطقة نجد وسط السعودية اليوم، في وقت كانت تتحرك فيه مظاهرات عارمة في شوارع بريطانيا ضد ممارسة التطعيم بنمطه الحديث بعد أن قاومه رجال الدين المسيحيون.
وبقدر ما تستوقف المرءَ تلك المفارقة اللافتة؛ فإن من المدهش جدا أن نجد أن تراث تلقيح الأبدان بالداء -لتقويتها أمام مخاطر الأمراض- عريق في تريخ البشرية، ومن العجب أيضا أن تلك الخبرة سُجّلت في الأدب العربي وخاصة الشعر الذي هو “ديوان العرب” المعرفي والتجاربي، مما ينم عن معرفة سابقة لهذا النمط من التداوي.
وإذا كان فقيه مسلم يسكن في عزلة عن العالم قد استوعب -كما سنرى لاحقا- العلاقةَ الغريبة بين الداء كخطر وفاة والداء كفرصة نجاة؛ فإنه لن يكون مستغرَبا أن نرى الدولة العثمانية أيامها قد ذهبت بالتطعيم -بنوعيْه التقليدي المتوارث والحديث حين اكتُشِف- إلى آماد أوسع، فقد كانت أرضها هي المعبر الأول الذي انتقل منه التطعيم إلى أوروبا ثم منها إلى بقية العالم بصيغة أكثر حداثة وفعالية.
ويبدو أن الأتراك ما زالوا -حتى اللحظة- قادرين على الإسهام الرائد في مجال التطعيمات الطبية؛ إذ يتصدر المشهدَ العالمي اليوم اثنان من حفدة العثمانيين يحملان الجنسية الألمانية، وهما البروفيسور أوغور شاهين وزوجته الدكتورة أوزليم توريتشي اللذان طوّرا أهمّ لقاح -حتى الآن- مضادّ لفيروس كورونا (كوفيد 19).
إن هذا المقال يقدم محاولة لتقفي رحلة التطعيم الطبي في مسارها المتعلق بالمسلمين، وخاصة في حقبة الدولة العثمانية وإسهامها في نشره بين رعاياها ونقله إلى أوروبا باعتراف الغربيين أنفسهم، كما يرصد المواقف الإسلامية والمسيحية من هذا الأسلوب الطبي الوقائي، وكيف تبنّت رفضه برلمانات ومؤسسات علمية يفترض فيها الانحياز إلى المنطق العلمي.
نظرة تاريخية
لعلّ فكرة التطعيم من أكثر الأفكار ثورية في التاريخ، وبقدر ما يُعدُّ تعبيرُ “التفكير خارج الصندوق” مبتذلًا فإنّه يبدو بالغ الصّدق إذا وصفنا به التطعيم، إذ العثور على الحلّ الشافي والظفرُ به من داخل المرض نفسه سيبقى -مهما تعوّده الناسُ- فكرةً باهرةً وجديرةً بإعجابٍ لا يخبو.
ومن العجيب في شأن التطعيم قِدمُ اكتشافه في مقابل حداثة انتشاره نسبيًّا؛ إذ يذكر مؤرّخ الحضارات الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في فصل “العِلم الهنديّ” من كتابه ‘قصة الحضارة‘- أن “الهند [عرفت] التطعيم منذ سنة 550م، مع أن أوروبا لم تعرفه إلا في القرن الثامن عشر”!
وقد استشهد ديورانت بما قال إنه “نصٌّ يُعزَى إلى ذانوانتاري (توفي في القرن 2م) وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود، وهذا هو: خذ السائل من البُثور التي تراها على ضرع البقرة…، خذه على سِنَان المِشْرَط ثم طَعِّم به الأذْرِعَة بين الأكتاف والمَرافق حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حُمَّى الجُدَرِيُّ”.
ويعود المؤرخ الأميركي بعد ذلك ليؤكد فضل الهند في هذا المجال، فيقول: “وعلمتنا الهند -بواسطة العرب- أعدادها البسيطة، وكسورها العشرية السحرية، كما علَّمت أوروبا دقائق التنويم المغناطيسي، وفن التطعيم”. كما يفيدنا بأن الصينيين “استخدموا اللقاح في معالجة الجُدَرِيُّ وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلهم قد أخذوا هذا عن الهند”.
ورغم اتصال العرب بالهنود ونقلهم علومهم إلى أوروبا وسائر الدنيا، كما أسلفنا نقلًا عن ديورانت؛ فإننا لم نجدهم عُنوا باللقاح الطبي أو التطعيم فيما نُقل إلينا من طبّهم في كتب التراث العربي الإسلامي، ولعلّ ذلك كان أحد أسباب تأخّر انتشاره في أرجاء الدنيا.
ملمح أدبي
على أنّ الخزانة الأدبية العربية لم تخلُ من دليل على معرفتهم معنًى قريناً لفكرة استخلاص الدواء من الداء عموما، واكتساب المناعة بالضربات المتتابعة؛ فهذا الشاعر العباسي أبو نواس (ت 198هـ/814م) يقول:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءُ ** وداوني بالتي كانت هي الدّاءُ!
ولئن كان دواء الخمر بالخمر من قبيل الاستجارة من الرمضاء بالنار؛ فإنّ أبا نواس قد أبدع في فكرته على الأقل، وإن أبعد وزاغ في تطبيقها!
أما أبو الطيب المتنبّي (ت 354هـ/965م) فكان له قصبُ السبق في الإشارة عموما إلى اكتساب الجسد قّوة المناعة بفعل الإصابات السابقة؛ إذ قال:
رماني الدّهرُ بالأرْزاءِ حتى ** فــــؤادي في غــشاءٍ من نِبَـال
فصــرتُ إذا أصابتني سهامٌ ** تكسّرتِ النِّصالُ على النصال!
فالمتنبي هنا يُشبّه المصائب التي تتابعت على جسده بسهامٍ أصابت قلبه، ثم إنّ السهام لما تكاثرت عليه صارت مثل غشاء أو درعٍ يحمي قلبه من السهام الجديدة، فتتكسر نصالُها الجديدة على النصال القديمة!
بيد أن المتنبّي لم يكتف بالتصريح بالمناعة الناشئة عن الإصابة المادية حتى كاد يتنبّأ بالمبدأ الذي قام عليه التطعيم الطبي الحديث، وذلك حين قال:
لعلّ عَتبَك محمودٌ عواقبُه *** فرُبّما صحّت الأجسادُ بالعِلَل!!
وقد علق الشاعر العراقي الشهير معروف الرصافي (ت 1365هـ/1945م) -في مقال بعنوان “عالم الذباب” كتبه سنة 1363هـ/1943م ونشرته لاحقا مجلة ‘الرسالة‘ المصرية في عددها رقم 971- على بيت المتنبي، ملاحِظا ذلك التنبؤ الغريب الكامن فيه؛ فرأى في ذلك ما يشبه المعجزة لأن المتنبي “قد قال هذا [البيت] في الأيام التي كان التطعيم فيها بجراثيم الأمراض غير معلوم، وفنّ البكترويولوجيا (= علم الجراثيم) غير موجود”!
ولا نعلمُ إن كانت هذه الفلسفة العربيّة بشأن التطعيم قد غادرت المرّبع الأدبيّ لتأخذ مجراها العمليّ في المجال الطبّي؛ فما عثرنا عليه متعلقا بهذا الجانب -في المصادر العربية الطبية التاريخية- شحيحٌ جدًّا، لكنه معبر عن وجود تطبيقات عملية -من نوع ما- لفكرة استخلاص الدواء من الداء لمكافحته.
خبرة مرصودة
ومن نماذج ذلك ما أشار إليه ابن سينا (ت 428هـ/1038م) -في كتابه ‘القانون في الطب‘- من إمكان اكتساب المناعة بأخذ ما يسبّبُ المرض والأذى؛ فقد قال ضاربا المثل على قدرة الجسم على اكتساب مناعة من السموم إذا تعوّد استعمالها بالتدريج: “وقد كانت بعض العجائز تناولت في أول الأمر من البيش (= مادة سامّة) شيئا قليلا جدا، ثم لم تزل تلازمه حتى ألِفته الطبيعة (= طبيعة جسمها) وتجرأت عليه، وما ضرها شيئا”!
وقريب من ذلك أيضا ما ذكره ابن أبي أصَيْبِعة (ت 668هـ/1269م) -في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘- من قصص واقعية -تواترت منذ زمان اليونان- تعدّ “دليلا على أن لحوم الأفاعي تنفع من نهْش الأفاعي والحيات”، ومن هنا جاءت فكرة “الترياق” الذي تعالج به السموم بمكوّنات تستخلص أحيانا من مصدر تلك السموم نفسها.
وربما تكون “ثقافة الترياق” هذه أحدثت أثرا عمليا في الممارسة الطبية تجاوز مجال معالجة السموم والوقاية من ضررها إلى جوانب أخرى من أنواع العلاج الوقائي للإصابة والمرض. وقد يشهد لصحة هذا الاستنتاج ما ذكرته مصادر حديثة من أن العرب كانوا يعرفون -من قديم الزمان- التطعيم الذي نمارسه اليوم، ومن ذلك ما ذكرته المستشرقة الألمانية الشهيرة زيغريد هونكه (ت 1420هـ/1999م) في كتابها ‘شمس العرب تسطع على الغرب‘.
فقد قالت هونكه إن “محاولة إدخال مبدأ التطعيم ضد الجُدَريّ في أوروبا -في أواخر القرن الثامن عشر- حققها العرب في العصور الإسلامية الأولى، مُتّبِعِين فيها نفس التفكير والأسلوب المُتَّبَعَيْن في عصرنا اليوم بالتلقيح بواسطة جراثيم ضعيفة وخلق المناعة بطرق اصطناعية. وكان الصينيون يضعون ضمادة مبلولة بقيح الجُدَريّ في أنف ولدهم؛ وأما العرب فقد اتبعوا طريقة أخرى في التلقيح، إذ عمدوا إلى جرح راحة اليد ما بين المعصم والإبهام ووضع قليل من بثور غير ملتهبة فوق الجرح يحفونه بها جيدا”.
وأكّد هذا القولَ معاصرٌ آخر هو الباحث في تاريخ العلوم الدكتور أسامة الصيادي في كتابه ‘أهم الاختراعات والاكتشافات في تاريخ الإنسانية‘؛ فقال: “وكان الأطباء العرب يتبعون الطب الوقائي في الأمراض المعدية؛ فقد كانوا… يصنعون نوعا من التطعيم ضد الجدري، إذ يأخذون بعض البثور من مريض ناقهٍ ويطعّم به الشخص السليم بأن توضع (= البثور) على راحة اليد وتُفْرَك جيدا، أو يحدثون خدشا في مكانها؛ وهي فكرة التطعيم نفسها التي نُسبت فيما بعد إلى أوروبا”.
موقفٌ محمودٌ
لم أجد لما ذكره هذان الباحثان شاهدًا من الكتب التراثية؛ لكن لدينا فتوى صدرت قبل أكثر من مئتيْ سنة عن أحد مشايخ نجد وسط الجزيرة العربية، وهو الشيخ حمد بن ناصر بن مُعمّر النجدي الحنبلي. وتوحي هذه الفتوى بأن التلقيح -بالصورة التي ذكرتها المستشرقة هونكه والدكتور الصيادي- كان ممارسةً قديمة دارجة شعبيا بين عوامّ الجزيرة العربية، وكان يُسمّى عندهم “التَّوْتِين”.
ومن الواضح أن هذا التلقيح الشعبي -الذي كان معروفا بين أهل نجد- لا صلة له بالتطعيم الرسميّ الذي كانت تُعنى به الدولة العثمانية وتنشره في بعض مناطقها، ناهيك عن أن يكون ممارَسا على الطريقة الإنجليزية التي عُرفت بالتزامن مع وقت صدور الفتوى أو قبله بقليل.
ففي فتواه المذكورة -والتي تضمَّنها كتاب بعنوان ‘عدة رسائل في مسائل فقهية‘ أشرف على طبعه الشيخ محمّد رشيد رضا (ت 1354هـ/1935م)- سُئل الشيخ ابن مُعمّر الحنبلي عن الحكم الشرعي في “التَّوْتِين (= التطعيم) الذي يفعله العَوَامُّ، أي يأخذون قَيْحاً من المَجْدُور ويَشُقّون جلد الصحيح ويجعلونه في ذلك [الموضع] المشقوق، يزعمون أنه إن جُدِر (= أصيب بالجُدَريّ) يخفف عنه”.
وقد أجاب الشيخُ سائلَه بأن هذا العلاج الوقائي نوعٌ “من التداوي عن الداء قبل نزوله..، فـهؤلاء يزعمون أن التَّوْتِين من الأسباب المخفِّفة للجُدَري. والذي يظهر لنا فيه الكراهة لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله، إلا أنه في الغالب إذا وُتِّنَ ظهر فيه الجُدَري فربما قتله، فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه، كما قد ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع فمات بسبب ذلك؛ فهذا وجه الكراهة” الشرعية في ممارسة “التَّوْتِين” أي التطعيم الشعبي.
والمُلاحظ أن الشيخ ابن معمّر إنّما كره “التَّوْتِين” من جهة الأخطاء التي كانت تشوبُ إجراء هذا النوع التقليدي من التطعيم، والمضاعفات التي جرت بسببه لمن أجرِي لهم. وقد عقّب الشيخ رشيد رضا على هذه فتوى الشيخ ابن معمّر عندما نشرها بعد انتشار التطعيم الحديث، مدركا التطابق بينه وبين “التَّوْتِين”؛ فقال: “يظهر أن هذا التَّوْتِين -الذي يُسَمَّى الآن التلقيح أو التطعيم- لم يكن في عصر هذا المفتي أو في بلاده قد نجح كنجاحه المعروف الآن، حتى في أمراض أخرى غير الجدري، ولذلك أثبتَ أنه مَظَنَّة الضرر فيكون مكروها”.
وقد ثمَّن الشيخُ رضا للفقيه الحنبلي اكتفاءَه فقط بإصدار حكم الكراهة التنزيهية -التي هي أقرب فقهيا إلى الإباحة- على التطعيم غير الاحترافي، في الوقت الذي “حرَّمه -في أول ظهوره- كثيرٌ من أهل البلاد والمِلَل (= الأديان) المختلفة حتى الإنكليز، وقد ثبت من عهد بعيد أنه يقي من هذا الداء الفتّاك المشوِّه (= الجُدَريّ)، وأن تأثير التلقيح الواقي خفيف جدا يتحمله الأطفال بسهولة؛ فالقول بوجوبه (= التطعيم) غير بعيد” من الناحية الفقهية.
تأصيلات لغوية
أما اسم “التَّوْتِين” فلعلّه لغةً جاء مما ذكرته المعاجم: “وَتَنَ.. [الشيءُ] وُتُوناً.. أي دام ولم ينقطع”، كما في معجم ‘الصحاح‘ لأبي نصر الجوهري (ت 393هـ/1004م)؛ فكأن هذا الاسم مأخوذ من دوام أثر جراحة التطعيم وبقاء نُدْبته في جسد الشخص المطعَّم.
وأهل نجد يسمون تطعيمهم “الوتنة”، وهي مفردة من معانيها الفصيحة: “المخالَفة”، كما في قول ابن منظور (ت 711هـ/1311م) في ‘لسان العرب‘: “الوتنة: المخالَفة”؛ ولعل معنى هذا الاسم مشتق من كون موضع التطعيم يبقى مختلفا عما حوله من البشرة لأثر جراحة التطعيم.
والشاهدُ هنا أنّ وجود “التَّوْتِين” -باسمه المحليّ لدى عوامّ الناس بالجزيرة العربية وبطريقته البدائية- يدلُّ على عمقٍ له في أصول الطبّ الشعبيّ العربيّ. وأما اسمُ “التطعيم” المستخدم اليوم فلعلّه مأخوذ من تطعيم الشجر؛ فإذا كانوا يأخذون من بثور المريض فيقطعون جلد الصحيح ويجعلونه فيه، فما أشبه ذلك بتطعيم الأشجار.
ومن الشواهد الشعرية على ذلك قولُ الشاعر المصري جمال الدين ابن نُباتة (ت 768هـ/1366م):
تشبهت بالغُـدران والنـــقشُ روضُها ** فأصبـحت ملهى النـــاظر المتوسِّمِ
وأنبتّ بـ”التطـــعيم” أشــــجارَ فضة ** ومِن أحسنِ الأشجار كلُّ “المُطَعَّم”
وقد ذكر ويل ديورانت -في ‘قصة الحضارة‘- خبرة المسلمين بتطعيم الشجر من قديم الزمان؛ فقال: “عَرف علماء الأحياء المسلمون طريقة إنتاج فواكه جديدة بطريق ‘التطعيم‘، وجمعوا بين شجرة الورد وشجرة اللوز، وأوجدوا بذلك ‘التطعيم‘ أزهارا نادرة جميلة المنظر”!
وذكرُ تطعيم النبات متواترٌ في كتب التراث، ومن ذلك ما أورده الطبيب والفقيه الشافعي علاء الدين ابن النفيس (ت 687هـ/1288م) -في ‘الشامل في الصناعة الطبية‘- حين تكلم على أنواع ثمرة الإجّاص، فقال إن منها نوعا “يُسمَّى بدمشق القراسيا البعلبكي، وإنما يتكوّن بدمشق بالتطعيم”.
سبق مشهود
وإذا انتقلنا من التنقيب عن الأصول التراثية للتطعيم إلى بيان أوليات ممارسته في العصر الحديث، ودور المسلمين في تعريف الآخرين به؛ فسنجد أن الأتراك العثمانيين كانوا أصحاب سبق مشهود في ميدان التطعيم، بل كانوا بوابته إلى أوروبا التي انتشر عبرها تدريجيا إلى العالم كلّه.
والظاهرُ أن التطعيم لم يكن جديدًا على الأتراك بدليل معرفته في جوارهم الجغرافي عند الشعبيْن الشركسي والأرمني؛ إذ يقول ديورانت: “كان قدماء الصينيين قد مارسوا نقل الفيروس الذي أضعِفت قوتُه من إنسان مصاب بالجُدَري إلى آخر لتحصينه ضد الجدري، ولهذا الغرض نفسه كانت النسوة الشركسيات يَخِزْنَ الجسم بِـإِبَـرٍ مُسَّت بسوائل الجدري”!
وفي معنى قريب من ذلك؛ يقول ويليام باينَم في كتابه ‘تاريخ الطب‘: “كان التلقيح إجراء مُتَّبَعاً في الشرق منذ قديم الأزل؛ فقد مارسه الصينيون باستخدام مسحوق من مادة المرض الطَّفْحِي واستنشاقه مثل مسحوق التبغ. وفي تركيا كانت [هذه] المادة تُدخل عبر حكّة في الجلد”.
وقد نشر العلّامة أنستاس الكرملي (ت 1366هـ/1947م) -في العدد 67 من مجلته ‘لغة العرب‘ الصادر بتاريخ 1 مارس/آذار 1929- مقالة بعنوان: “صفحة من تاريخ التطعيم الواقي من الجدري في العراق وإيران”، وكان مما جاء فيها: “يُروى.. أن قسما من الأرمن كانوا يُطْعِمون أولادَهم زبيباً مَحْشُوًّا بقليل من صديد بُثور الجُدَري للوقاية منه. وقد ذكر السائح الإيطالي سستيني (ت بعد 1195هـ/1781م) -في كتاب رحلته إلى بغداد سنة 1781…- أن أهل الزوراء (= بغداد) قاطبة كانوا يُلقِّحون أنفسهم بأنفسهم”! ثم تساءل الكرملي: “ماذا يريد [سستيني] بهذا الكلام؟ هل يا ترى [يقصد] التلقيح الشائع في الآستانة (= إسطنبول) أم غيره؟ فالله أعلم”.
ولعله من هنا ذهب المؤرخ التركي يلماز أوزتونا (ت 1434هـ/2012م) -في كتابه ‘تاريخ الدولة العثمانية‘- إلى أن التطعيم “طبّقه الأتراك لعصور طويلة”! وأضاف محددا تاريخ بداية توثيق ممارسة العثمانيين لتطعيم الأطفال: “لدينا معلومات عن تطعيم الأطفال في إسطنبول ضد الجدري عام 1695 (= 1108هـ)”.
انتقال متدرج
ومما يؤيد كلامَ أوزتونا حديثُ ديورانت عن أنه “في [عام] 1714 وصفت رسالةُ من الدكتور إيمانويل تيموني (= Emanuel Timoni المتوفى بعد 1128هـ/1716م) -قُرِئتْ على جمعية لندن الملكية- الحصولَ على الجدري بالحزّ أو التطعيم كما مورِس منذ زمن طويل في الآستانة”!
وفي معرض حديثه عن العادات الصحية التركية؛ صرح ديورانت -في ‘قصة الحضارة‘- بفضل الأتراك في إيصال التطعيم إلى أوروبا ضمن ما نقلته عنهم من العادات الصحية والأساليب الطبية، وذلك في صورة ممارسةٍ عمليةٍ للتطعيم وليس فقط معلومات شارحة له كما في رسالة الدكتور تيموني السابق ذكرها.
يقول ديورانت: “كان الأتراك فخورين بحمّاماتهم العامة، يرون أنفسهم على العموم شعباً أنظف من النصارى (= الأوروبيين)…؛ وكان الكثيرون من أفراد الطبقتين العليا والوسطى يختلفون إلى الحمام التركي مرتين في الأسبوع، وأكثر منهم يختلفون مرة في الأسبوع..؛ لا عجب إذن إن لم نسمع الكثير عن روماتيزم المفاصل في تركيا. [كما أن] الأتراك.. علموا أوروبا التطعيم ضد الجُدَري، ولم يخامرهم شك في أن مدنيتهم تفوق مدنية الأقطار المسيحية”.
وقد انتقل التطعيم من العاصمة العثمانية الآستانة إلى أوروبا في الثلث الأول من القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وفق ما ذكرته ليدي ماري وورتلي مونتياغو (Mary Wortley Montagu توفيت 1176هـ/1762م) التي كانت زوجة إدوارد وورتلي مونتياغو (ت 1175هـ/1761م) السفير البريطاني لدى الإمبراطورية العثمانية.
كتبت ليدي مونتياغو -في رسالة بعثت بها من إسطنبول إلى أحد معارفها في لندن بتاريخ 1 أبريل/نيسان 1717 الموافق 1129هـ ونقل ديورانت نصها- تحكي مشاهداتها بشأن التطعيم لدى العثمانيين وفعاليته الصحية؛ فقالت: “إن الجدري ذلك المرض الشديد الفتك والانتشار بيننا -نحن البريطانيين- قد جعله اختراع التطعيم سليم العاقبة تماما..، وفي كل عام تُجرَى العملية لألوف الناس [في الدولة العثمانية]..، وليس هناك حالة واحدة لشخص مات منها. وقد تُصدِّق أنني مطمئنة جدا لسلامة التجربة إذا علمتَ أنني أنوي تطبيقها على ولدي الصغير الحبيب”. ثم يعقّب ديورانت قائلا: “وقد طُعِّم الصبي البالغ من العمر ست سنوات في مارس/آذار 1718 (= 1130هـ) بيد الدكتور تشارلز ميتلاند، وهو طبيب إنجليزي كان يومها في تركيا”!
مقاومة صلبة
من العجب أن أوروبا -وهي في أوج عصر نهضتها العلمية- قاومت التطعيم على الطريقة التركية مقاومة شديدة في بداية تعرّفها عليه، وكانت في ذلك مدفوعةً بأسباب غريبة جدًّا دارت بين السياسي والأيديولوجيّ، وقد لخص ذلك المؤرخ التركي أوزتونا بقوله: “قاومت أوروبا مدة طويلة اللقاح الذي طبقه الأتراك لعصور طويلة…، إن حدوث الاكتشاف من قبل الأتراك أوقع أوروبا في تردد طويل الأمد جدا، وأعلن الرهبان أن الذي يسمح بإجراء تطعيم له يعتبر خارجا على الدين”!
وهكذا طالت مدة الرفض الأوروبي للاستفادة من طريقة التطعيم العثمانية حتى “استغرق الجمهور ورجال الطب القرن الثامن عشر بطوله تقريباً لتقبل التطعيم الوقائي لوناً مشروعا من ألوان الطب العلاجي”؛ وفقا لديورانت الذي استعرض بشكل خاص تاريخ معارضة البريطانيين لهذا التطعيم، وعزا ذلك إلى “موقف المجتمع البريطاني المتحفظ ضد كل ما هو جديد”.
وقد نقل ديورانت من أخبار ليدي ماري مونتاغو -زوجة السفير البريطاني في إسطنبول- أنها واجهت حربًا ضروسًا، بسبب دعايتها في بلادها للتطعيم العثماني بعد مشاهدتها له ولنتائجه الفعالة في إسطنبول؛ “ففي [سنة] 1721 انتشر وباء جدري في لندن وفتك بأهلها لا سيما الأطفال، وكانت ليدي ماري قد عادت من تركيا فكلفت الدكتور ميتلاند (= الطبيب المرافق لزوجها السفير في تركيا) الذي عاد هو أيضا إلى وطنه، بأن يطعِّم ابنتها البالغة من العمر أربعة أعوام. ودعا [ميتلاند] ثلاثةً من أبرز الأطباء ليروا أن الفتاة.. لم تزعجها النتائج إزعاجا يُذكر؛ فأعجبوا بما رأوا وسمح أحدهم بتطعيم ابنه”.
ووفقا لما أورده ديورانت؛ فإنه بعد تلك التجارب المشجعة “نشرت ليدي ماري الفكرة في البلاط” الملكي في أوساط الأسرة الحاكمة ببريطانيا. ففي سنة 1722؛ أمرت الملكة كارولين أنسباخ (ت 1150هـ/1737م) -زوجة ملك بريطانيا حينها جورج الثاني (ت 1139هـ/1727م)- رسميا “بإجراء العملية (= التطعيم) على الأطفال الأيتام في أبرشية سانت جيمس فتكللت بالنجاح التام، وفي أبريل/نيسان (من السنة ذاتها) أمرت بإجرائها على اثنتين من بناتها”، كانت إحداهما ابنتها الأثيرة الأميرة كارولين (ت 1170هـ/1757م) الملقبة “أميرة بريطانيا العظمى”.
أما أكثرُ ما يثير الاستغراب فهو الطريقة التي اعتمدها البلاط البريطاني للتأكد من فاعلية التطعيم، عبر اتخاذه المساجين والأيتام حقلا لاختبار نجاح التجربة؛ ففي سنة 1154هـ/1741م “وافقت الأميرة كارولين [التي سبق تطعيمها وهي صغيرة] على تجربة التطعيم على ستة مجرمين حُكم عليهم بالإعدام، فارتضوا (= وافقوا) على وعد بأن يُفرج عنهم إن ظلوا أحياء؛ وعانى أحدهم من إصابة خفيفة بالمرض، أما الباقون فلم يَبدُ عليهم أي أذى، وأفرِج عن الستة جميعاً”.
ثم يذكر ديورانت أن تلك الخطوات الرسمية الناجحة أعطت القضية دفعا مجتمعيا كبيرا، قبل حصول انتكاسة في الممارسة غذّت حركة معارضتها من جديد؛ ففي البداية “انتشر قبول التطعيم في الأوساط الأرستقراطية البريطانية، ولكن موت شخصين مطعَّمَيْن في بيتهما عطّل الحركة وقوّى المعارضة لها”.
عوائق متعددة
كان رجال الدين المسيحيون في طليعة من ناهضوا تجارب التطعيم تلك؛ إذ نظر بعضُ القساوسة إلى التطعيم باعتباره دليلا على اعتراض من يُجْريه على القَدَر أو مناهضته للإرادة الإلهية القاضية بإيقاع المرض! فقد ذكر ديورانت أن قسيسًا إنجليزيًّا “يُدعى إدوارد ماسي [بقي] حتى عام 1772 يعظ ضد “عادة التطعيم الخطرة المدنية”، ويدافع بقوة عن رأي اللاهوت القديم الذي يرى أن الأمراض ترسلها العناية الإلهية عقاباً على الخطيئة”!!
وفي الوقت نفسه؛ يبدو أنه كن من أسباب رفض التطعيم انتشار ممارسته على أيدي النساء، فقد “شكا أحد النقاد من أن “تجربة لم تمارسها غير قلة من النساء الجاهلات… تسود فجأة -وبعد خبرة ضئيلة- على أمّة من أكثر أمم الأرض أدبا وتهذيبا، حتى وجدت طريقها إلى القصر الملكي””. كما “شجب معظمُ الأطباء الإنجليز التطعيمَ لما فيه من خطر” وفق رؤيتهم.
لم تقف ليدي مونتاغو مكتوفة اليدين أمام هذه المعارضة المحمومة لجهودها لإنقاذ مجتمعها من مرض فتّاك، فاستعملت ما أمكنها من الحِيل البديعة في معركتها المصيرية؛ “أحست ليدي ماري بهذه الطعنة، فنشرت دون توقيع [منشورا كان عنوانُه]: “بيانا واضحا عن التطعيم بالجدري بقلم تاجر تركي””؛ حسبما نقله ديورانت. ولعلّه من المثير للاستغراب أن يكون بيان منحول لتاجرٍ تُركيّ مخترَع أكثر قبولًا عند عامة البريطانيين أيامها من القرارات والشهادات الرسمية، والتجارب الطبية المشاهدة والناجحة!!
لم تكن المعارضة الأوروبية للتطعيم إنجليزية فقط، بل كان لفرنسا “عصر الأنوار” نصيبها الوافر من الريبة القوية في هذا الوافد العثماني إلى بلاد الغال والوقوف أمام زحفه. ومن العجب أن تتصدر مشهدَ معارضة التطعيم النخبتان العلمية والسياسية ممثَّلتيْن في جامعة باريس والبرلمان الفرنسيّ؛ فبعد أن “ضرب الوصي على العرش فيليب أورليان (ت 1135هـ/1723م) -بشجاعته المعهودة- المَثَلَ لغيره بتطعيم ولديْه، عارضت كلية الطب بجامعة باريس التطعيم حتى 1763″؛ وفقا لرواية ديورانت.
وقد كان الأديب الفرنسي فولتير (ت 1192هـ/1778م) استثناءً بارزا في ذلك المشهد المناهض؛ إذ “امتدح حملة ليدي ماري في ‘رسائله حول الإنجليز‘، ولاحظ انتشار التطعيم بين الشراكسة”!!
تنصّل مرفوض
يؤكد ديورانت أن فولتير هو مؤلف كتاب ‘تاريخ برلمان باريس‘ رغم تنصله العلني من نسبته إليه، ويقرر أن فولتير كتبه ونشره باسم مستعار تجنّبًا للمشاكل، خاصة أنه قدّم فيه البرلمانَ الفرنسي باعتباره “مؤسسةً رجعية قاومت -في كل مناسبة- التدابيرَ التقدمية، كإنشاء الأكاديمية الفرنسية، والتطعيم ضد الجدري، والإدارة الحرة للقضاء”.
يفرد ديورانت صفحات لبيان جهود الطبيب الجرّاح الإنجليزي إدوارد جِينّر (ت 1238هـ/1823م) التي كانت محطة مهمّة في تاريخ تطور التطعيم ضدّ الجُدَري، بل وضدّ الأمراض الجرثومية عمومًا وما تسببه من أوبئة وطواعين مهلكة؛ فيقول إن جِينّر “لاحظ.. أن اللبَّانات (= حالبات الأبقار) اللاتي أصِبْنَ بجدري البقر -وهو مرض خفيف نسبيا- نادراً ما يُصَبن بالجدري الذي يفتك بالمرضى في غالب الأحيان”.
ويضيف شارحا المنعطف الحاسم في مجهود جِينّر؛ فيقول إنه في “حوالي [سنة] 1778 خطرت له فكرة نقل المناعة ضد الجدري بالتطعيم بلقاح مصنوع من بقرة مصابة بالجدري…، وفي مايو/أيار 1796 أجرى جِينّر عملية التطعيم بتلقيح [صبي]… بصديد جدري البقر… ولم يصب الصبي بالجدري، فاستنتج جِينّر أن لقاح البقر يعطي حصانة ضد الجدري”!
وقد دفع ذلك النجاحُ جِينّر إلى أن ينشر في 1798 “كتابه الخطير “تحقيق في سبب ونتائج لقاح الفاريولا” (والفاريولا كان الاسم الطبي للجدري) الذي روى فيه قصة ثلاث وعشرين حالة كانت كلها ناجحة”.
وقد لاحظ ديورانت أنه بعد ذلك النجاح الذي أحرزته تلك التطعيمات “بلغ الاقتناع بالتجارب التي أعقبت هذا مبلغاً حَمَلَ البرلمان [البريطاني] في 1802و1807 على منح جِينّر ثلاثين ألف جنيه ليوسّع عمله ويحسِّن طريقته، وبعدها تناقصت سريعاً الإصابات بالجدري، ذلك المرض الذي ظل قروناً سوطاً من أسواط العذاب الكبرى التي أشرعت على حياة البشر”.
اقتباس مرجَّح
لقد سبق أن نقلنا عن ديورانت وغيره نسبتهم فضل نشر التطعيم إلى الأتراك، وأشرنا لجهود ليدي مونتاغو وغيرها ممن نقلوا الطريقة التركية إلى بلدانهم الأوروبية، ونود هنا أن ننوه بترجيح البعض اقتباس الطبيب جِينّر طريقته من نظيرتها التركيّة.
فقد جاء في مقالة الكرملي -الآنفة الذكر- أن ليدي مونتاغو “لما عادت [من إسطنبول] إلى بلادها بذلت جهدها في تعريف ذلك التلقيح ونشره بين جميع طبقات الشعب الإنكليزي، فنجحت في مسعاها. وعندي أنه ربما اتصل خبر هذا التلقيح -بعد حين- إلى جِينّر فنبه في عقله فكرة كشفه” الطبي الحاسم.
وكما واجهت جهود ليدي مونتاغو مقاومة شرسة من طبقات المجتمع فقد لقيت تجاربُ الجرّاح جِينّر المصيرَ نفسه؛ ففي مقالةٍ منشورة على موقع “تاريخ التطعيمات” -التابع لجمعية الأطباء بفيلادلفيا الأميركية- ورد ذكر جانب من المعارضة الشعبية التي لقيها تطعيم جِينّر في وقته، إذ “اعتقد بعض المعترضين -بما في ذلك رجال الدين المحليون- أن اللقاح كان «غير مسيحي» لأنه جاء من حيوان”!
ووثقت المقالةُ ذاتها تنظيم مظاهرة ضخمة آنذاك في بريطانيا شارك فيها نحوُ مئة ألف محتجّ اعترضوا على التطعيم حين “فَرض مرسومُ التطعيم في 1853 التلقيحَ الإلزامي للأطفال…، [وكان] مصحوبا بعقوبات لرفض اللقاح”؛ وخرج المحتجون يحملون “الرايات، وتابوت طفل، ودمية لجِينّر”!
وقد جرت المظاهرة في مارس/آذار 1885/1302هـ بمدينة ليستر البريطانية التي كانت “معقلًا خاصًا للنشاط المضاد للتطعيم، ومكانًا للعديد من المسيرات المضادة للتطعيم”، وشهدت المسيرة تضحية استثنائية “لأمّ شابّة ورجلين عزموا جميعًا على تسليم أنفسهم للشرطة والخضوع للسجن، بدلًا من إخضاع أطفالهم للتطعيم”.
تجارب بغدادية
لم يكن إجراء التطعيم في الدولة العثمانية مقتصرًا على الآستانة/إسطنبول، بل امتدّ أحيانا إلى بعض الولايات الأخرى بعناية رسميّة؛ إذ يفيدنا الكرملي -في مقالته السابقة- بأن التطعيم على طريقة جِينّر مورس في العراق قبل عام 1809، بواسطة شابّ أرمنيّ كاثوليكيّ من أهل الآستانة يُدعى أوانيس بن بدروس مراديان (ت 1247هـ/1832م) أو “مراديان الإسلامبولي”، الذي كان يحسن ست لغات ويتابع “سير الأمور السياسية شرقا وغربا، ويتتبع تقدم العلوم في بلاد الإفرنج وظهور المكشوفات العلمية فيها والاختراعات الفنية”.
ووفقا لما ذكره الكرملي؛ فإن أوانيس هذا “على يده دخل بغدادَ -لأول مرة- التطعيمُ الواقي والعام من الجدري طبقا لطريقة جِينّر، لكن الله يعلم بما كابده من الأتعاب وعاناه من المشاق في سبيل الوصول إلى إقناع أهل بغداد بقوله لهم والإقدام عليه، وذلك بسبب الأوهام السائدة وقتئذ على العقول، ولا سيما لأن التطعيم كان يُظَنُّ أنه مخالِفٌ للقَدَر”.
وإذا كان هذا التعليل الشعبي لمعارضة التطعيم يذكرنا بنظائره التي سبق ذكر تعلل الأوروبيين بها، فإن موقف المؤسسة الدينية الإسلامية بالعراق بدا مختلفا جدا عن نظيرتها الغربية؛ فقد استطاع أوانيس بمعونة من مفتي بغداد العام آنذاك أن يذلل الصعاب التي اعترضته، وينشر التطعيم في العراق ويمارسه على أوسع نطاق.
يقول الكرملي بعد ذكره فشل مهمة حملة التطعيم الأولى: “بيد أن أوانيس عاد سنة 1809 فأفرغ قصارى جهده في تذليل العقبات وتشتيت الأوهام التي حالت قَبْلًا دون غايته، ففاز أخيرا بأمنيته وتكلل مسعاه بنجاح باهر، حتى إن مفتي بغداد الكبير وهو أحمد أفندي (ت 1213هـ/1828م) الحصيف الرأي رضي بأن يتطعم أولاده وحفدته الستة”. وموقف مفتي بغداد هذا قبل قرنين إنما يذكرنا -في مقصده العام- بما نراه اليوم من نشر لصور قادة دول العالم وهم يتلقوْن لقاح فيروس كورونا (كوفيد 19) لطمأنة مواطنيهم بشأن سلامته!
ويبدو أن الناس وجدت فيما فعله المفتي من تطعيم لأفراد عائلته قدوة عملية بددت مخاوفَها الدينيةَ والصحيةَ، حتى إن ذلك تعدى المسلمين إلى أتباع الديانات الأخرى ببغداد؛ فالكرملي يؤكد أن موقف “مفتي بغداد شجّع الناس -على اختلاف مِلَلِهم- فدفعهم إلى الإقدام على التطعيم بلا خوف ولا تردد، حتى إن أوانيس تمكّن من أن يطعّم مع امرأته تريزية (= تريزيا أنطوان أتري المتوفاة بعد 1247هـ/1832م وكانت ابنة طبيب فرنسي) أكثر من خمسة آلاف وأربعمئة ولد في مدة تسع سنوات، دون أن يحدث حادث يقلل ثقة الناس بالتطعيم، وكان تطعيم الثلثين من العدد المذكور مجانا”.
مثابرة مثمرة
لم يُغْنِ ذلك النجاح الكبير أوانيس عن السعي لتوسيع نطاقه مستعينا هذه المرة بدعم مجرّبي تطعيمه من عوامّ العراقيين، الذين حرروا له إقرارا يشهد له بالنجاح ولتطعيمه بالنجاعة، فكتبوا له ورقةً سمّوْه فيها “الخواجة أوانيس مراديان الإسلامبولي”، وشهدوا له بأنه “من تاريخ أربع سنين إلى الآن كلّ من استعمله ما.. ظهر به الجدري الطبيعي أبدا”. ثم ختموا بالدعاء له وبتوثيق تاريخ الشهادة: “ربنا يجازيه ولأولاده لأجل هذا الخير الكلي الذي أدخله وعلَّمه في بلدنا. حُرِّر في بغداد في 30 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1814 (= 1229هـ)”.
وفي المقالة ذاتها نجد الإشارة إلى تنفيذ حملات تطعيم مجانية برعاية الدولة العثمانية؛ ففي “سنة 1847 (= 1263هـ) أنفذ السلطان عبد المجيد (ت 1277هـ/1861م) أمرًا بإرسال راغب بك (ت بعد 1263هـ/1847م) حاجبه الثالث إلى بغداد وغيرها من الولايات العثمانية، ليتفقد أحوالها وينظر في شؤونها..، فدخل راغب بك الزوراء (= بغداد) في 21 مارس/آذار من السنة المذكورة، ومعه طبيب أرمني اسمه باروناك فروخ خان (ت بعد 1263هـ/1847م) كان قد رافقه من الآستانة (= إسطنبول) ليداوي المرضى، ويطعّم الأولاد مجانًا في جميع المدن والقرى التي على طريقهما، وما وطئت قدماه مدينة السلام (= بغداد) حتى أخذ يقوم بوظيفته المعهودة إليه -بهمَّة لا تعرف المَلَل- في جهات عديدة من العراق، ثم قفل راجعا إلى الآستانة، ومن ذلك اليوم لم ينقطع التطعيم من العراق بل زاد شأنا وانتشارا”.
لكن يبدو أن التطعيم العثماني -بنوعيْه القديم التركي والحديث الذي على طريقة جِينّر- لم يكن معروفا في ولاية الجزائر رغم أنها كانت حينها منطقة حيوية للعثمانيين، وغياب تطعيمهم عن الجزائر هو ما جعل سلطاتها المحلية تلجأ لتطعيم الأوروبيين. ففي دراسة بعنوان ‘تاريخ الطب في الجزائر في ظل الاستعمار الفرنسي 1830-1962‘ للباحثة د. مجاهد يمينة؛ ورد الآتي نقلا عن كتاب ‘الطب الشعبي الجزائري في بداية الاحتلال‘ للطبيب الفرنسي شونبيرغ .أ.ف:
“يذكر شونبيرغ أن [الحاكم العثماني بالجزائر] الداي حسين (ت 1254هـ/1838م) أرسل أولاده وأسرته إلى طبيب إنجليزي يدعى ‘بوهن‘ لتطعيمهم، فأثارت هذه المسألة اهتماما عاما لأنها كانت في الواقع مضادة للمفهوم السائد في المجتمع الجزائري الذي يدعو إلى الإيمان بالقضاء والقَدَر، ونجحت عملية التطعيم نجاحا كاملا ونالت أيضا رضا الداي فأرسل بعدئذ للسيد ‘بوهن‘ مبلغا من المال”.
لم يكن موقف مفتي بغداد -المتقدم الذكر- ثم من بعده عوامّ العراقيين منبتًّا عن الثقافة الدينية الإسلامية التي لم تر بأسًا في توقّي المرض قبل حصوله، وفي الحرص على العلاج وإدراك وجوده، والواجب الإنسانيّ في البحث عنه والعثور عليه؛ فقد جاء في الحديث عن أسامة بن شريك -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ قال: “يا عباد الله تداوَوْا، فإن الله عز وجل لم يَضع داءً إلا وَضع له شفاءً”؛ رواه البخاري (ت 256هـ/870م) في كتابه ‘الأدب المفرد‘، وجاء أيضا في سنن أبي داود (ت 275هـ/888م) وجامع الترمذي (ت 279هـ/892م).
اختيار مؤصّل
كما لم يجد المسلمون -فيما رُوي عن نبيهم ﷺ- بأسًا في أخذ العلاج قبل وقوع المرض، ولم يروا فيه أدنى معارضة للقَدَر؛ فقد جاء في ‘صحيح البخاري‘: عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَات عَجْوَةٍ (= نوع من التمر) لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ».
وعلى هذا اعتمد الفقهاء المعاصرون في فتاواهم بجواز التطعيم الحديث، ورأوا أن ذلك من “باب دفع البلاء قبل وقوعه”، ولم يكن عندهم فيه من بأس إذا لم يأت يقينا بضرر أعظم منه. وقد حُفظ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) قوله عندما رجع بجيش المسلمين دون أن يدخل الشام لانتشار وباء الطاعون فيه حينها: “نفِرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله”؛ كما جاء في الصحيحين.
ولذلك لم يكن مستغرَبًا أن يقرِّع الإمامُ محمد عبده (ت 1323هـ/1905م) الكاتب المسيحي فرح أنطون (ت 1340هـ/1922م) في نيله من مكانة العلوم التجريبية في الإسلام، ويذكّره بموقف أوروبا المسيحية المعارض للتطعيم، وذلك في مقالة له منشورة في مجلة ‘المنار‘ -بتاريخ 1 جمادى الآخرة سنة 1320هـ/1902م- بعنوان: “الاضطهاد في النصرانية والإسلام”.
يقول الإمام عبده: “هل تدري ماذا حصل من المقاومة [المسيحية] لإدخال الحقن تحت الجلد بمادة المرض (= التطعيم)؟ اكتشفت هذه الطريقة الطبية عند المسلمين في الآستانة، ثم نقلتها إلى أوروبا امرأة تسمى ماري مونتاغو سنة 1721م؛ فقامت قيامة القُسُوس (= جمع قَسٍّ) وعارضوا في استعمالها، واحتيج في تعضيدها إلى التماس المساعدة من ملك إنكلترا، وعادت هذه الشدة في المعارضة عندما اكتُشفت طريقة تطعيم الجُدَري” على طريقة الطبيب الإنجليزي جِينّر.
وقد كانت التوصية بالتطعيم مدرجة في التعليمات الصحية التي انتشرت الدعوة إليها أيام الأوبئة في بعض الأقطار العربية قبل قرن على الأقل؛ فقد حفظت لنا مقالةٌ نشرها أمين الجميّل -في عدد مجلّة “الزهور” المصرية الصادر مطلع أكتوبر/تشرين الأول سنة 1910 الموافقة 1228هـ- نسخةً من الإجراءات الاحترازية الموصَى بها طبيا أيامها لمواجهة وباء كوليرا اجتاح أوروبا وجوارها، وهي تُشبه كثيرًا إجراءات مواجهة وباء كورونا (كوفيد 19) المطبقة في دول العالم في أيامنا هذه.
وقد بدأ الكاتب مقالته بقوله: “تحمل إلينا التلغرافات يوميًّا أنباء مزعجة عن فتكات الكوليرا في أنحاء أوروبا، وقد بات الوباء على الأبواب يتهددنا فيجب علينا -اتقاءً لشره وردًّا لغاراته- أن نتدرع بقانون الصحة، فيكون لنا حرزاً حريزاً”. ثم ذكر الإجراءات الاحترازية واحدًا تلو الآخر، مطنبًا في شرحها وبيان فوائدها، غير أن أهم ما جاء فيها وأكثره إثارة للعجب دعوة الكاتب الناس إلى:
– النظافة هي ركن القانون الصحي، وفضل النظافة على التنظيف كفضل الوقاية على المعالجة.
– التطعيم وتجديده لبعض الأمراض لاسيما الجدري لأنه الواقي العجيب من هذا الداء الوبيل، ونحن بانتظار اكتشاف لقاح لباقي الأمراض المعدية.
– عزل المصاب بمرض مُعْدٍ عن السُّلَماء (= الأصحّاء).
– التطهير: أي ملاشاة (= إبادة) الجرثومة في مصدرها وينبوعها بالمستحضرات التي تقتل الميكروبات، أو بالمطاهر والمخانق البخارية، أو بالهواء السخن الذي يطهر الثياب والفرش والأثاث بقوة الحرارة.
المصدر : الجزيرة