ماما آسية: اليد الناعمة التي أسقطت السجون العاتية
كان أكبر وأسرع تغيير للتدبير عرفته سجون المملكة ...فأطلق سراح عدد من القاصرين وأحيل البعض الآخر إلى مركز حماية الطفولة بطنجة
محمد الطيب بوشيبة
كيف أبدأ؟ ومن أين أبدأ؟ آسية الوديع امرأة قصيرة القامة، عالية الهامة والكرامة
ماما آسية؟ امرأة عصية عن الإيجاز
رفضت الظلم وناصرت المظلومين من خلال مسارها الوظيفي والإنساني، ومن خلال جمعية “أصدقاء مراكز الإصلاح وحماية الطفولة” التي كان لي شرف عضويتها محليا بطنجة، وعضو مكتبها الوطني في ما بعد.
لكن دعوني أبدأ من البداية.
أذكر يوم أتت إلى السجن المحلي بطنجة بمعية وكلاء الملك والسادة القضاة… فكان أكبر وأسرع تغيير للتدبير عرفته سجون المملكة …فأطلق سراح عدد من القاصرين وأحيل البعض الآخر إلى مركز حماية الطفولة بطنجة (التي أغلقت للأسف رغم الحاجة الماسة إلى خدماتها. هل كانت ستبقى مغلقة لو أطال الله في عمر ماما آسية؟).
وبفضل مباركة العرش المغربي المجيد لجهودها، تمكنت ماما آسية من إقناع السلطات السجنية والقضائية بإنشاء مدرسة متعددة الاختصاصات لتكوين السجناء في مختلف المهن.
ثم عمم ذلك على كل سجون المغرب في إطار برنامج وطني لأنسنة العقاب داخل السجون. وكان لي الشرف أن أتكلف بالتربية الدامجة بسجون الجهة التابع لأكاديمية وزارة التربية والتعليم الأولي والرياضة بجهة طنجة تطوان الحسيمة، وهي ثاني أكاديمية بعد أكاديمية الدار البيضاء التي تبنت هذا البرنامج الإصلاحي.
ثم أتذكر جيدا الأستاذة آسية الوديع حين نلتقي. تحاطبنا قائلة: “الطريق طويل وشاق لأنسنة العقاب ببلادنا، وعلى الجميع استيعاب أسس المغرب الجديد والوقوف أمام أي خرق لحقوق الإنسان لنحقق الكرامة والعزة التي ناضل من أجلها جيل كامل من شباب هذه الوطن الغالي، ولحسن حظ المغاربة فإن هذه التراكمات النضالية تنصهر مع الإرادة الملكية لملك شاب وطموح محمد السادس نصره الله وأيده”.
المناضلة آسية الوديع دفعت ثمن نضالاتها إلى جانب والديها وإخوتها…
فقد نشأت في وسط نضالي. والدها رجلا تحرري، وأمها أديبة.
آسية البنت البكر لهذه العائلة النضالية.
درست في المغرب وباريس. وحصلت على الإجازة في الحقوق. والتحقت بسلك القضاء في مرحلة مبكرة من شبابها.ة لكن الغليان التحرري في البيت لاحقها في العمل ولم يناسبها أن تظل في سلك القضاء بعد سَجن والدها وأخويها. ولعمري فقد لخص شريط “المناضلة المغربية آسيا الوديع” مسيرة هذه المرأة المتميزة بتضمّنه شهادات مؤثرة من إخوتها ومعارفها، وصورٍ، وقصص من مغرب “الجمر والرصاص”، وأخرى من حقبة المصالحة والإنصاف في زمن محمد السادس المنصور بالله.
تتحدث أسماء الوديع في بداية الفيلم عن الوالد محمد الوديع الآسفي الذي خبر النضال والسجون في حقبة الاستعمار وبعد الاستقلال. وتروي أن والدتها ثريّا السّقاط شبّت على حب الفن والأدب، وأصدرت ديوانا شعريا عن سَجن أولادها، ولها كتاب بعنوان “مناديل وقضبان”.
ويروي أخوها صلاح الوديع أن والده كان مناضلا في حزب الاتحاد الوطني ذي العقيدة الاشتراكية.
وفي عام 1974، سار الأخوان، صلاح وعزيز، على درب والدهما ليشربا من نفس المشرب…
يروي لنا صلاح أن أموراً مهمة حدثت في هذه الدار، حيث “تأسست نقابات وكيانات سياسية وجرت مقابلات مع صحفيين أجانب”.
ويضيف صلاح أنه عندما حضر رجال الأمن إلى البيت للقبض على الأخوين عزيز وصلاح، احتجت أختهما القاضية على الإجراء لأنه لم تكن بصحبتهم مذكرة قبض وتفتيش.
لكن احتجاجها لم يجد نفعا، فقد اقتيدا للمعتقل وحكم القاضي بسجن كل منهما 22 عاما، فأطلقت أمهما الزغاريد لحثهما على التجلّد، وانطلقا في الترديد: “لنا يا رفاق لقاء غدا،،، سنأتي ولن نخلف الموعدا”...
على إثر ذلك وفي مطلع الثمانينيات، استقالت آسية من القضاء والتحقت بمهنة المحاماة، وأبقت على وهج التحرر في بيت محمد الوديع، فكافحت ضد الظلم وخنق الحريات في كل سجون المغرب.
وفي يوليوز 1999، أطلق وريث العرش جلالة الملك محمد السادس حقبة الإنصاف والمصالحة، وكانت الأستاذة آسية حاضرة بقوة في مواجهة الحقبة الأولى، فسخّرت وقتها للدفاع عن سجناء الحق العام وتثقيفهم وتمكينهم من التعليم، واستعادة إنسانيتهم وكرامتهم في هذه الفترة المهمة من تاريخ المغرب كان لي شرف التعرف على الأستاذة آسية الوديع والعمل إلى جانبها …
وعندما أصبحت مسؤولة بمركز الإصلاح والتهذيب في سجون الدار البيضاء، تمكنت آسية الوديع من زعزعة نظام سجني كان مبناًي على القمع والعنف المبالغ فيه. يخلع عن السجناء آدميتهم ويهدر كرامتهم. فدخلت وأدخلت معها جمعيات المجتمع المدني للعمل داخل السجون وتمكنت من وضع جسور التواصل مباشرة مع السجناء من جهة والترافع من اجل أنسنة المؤسسة السجنية.
لفتت جهودُها انتباه جلالة الملك محمد السادس، فتبرع للجمعية بمليار درهم، وأطلقت عليها الصحافة لقب “أم السجناء في المغرب”. وعرفها السجناء الأحداث باسم “ماما آسية”، نظرا لتكريس وقتها لنزلاء السجون، وخصوصا الأحداث منهم.
“كانت العلاقة بين السجناء والأستاذة آسية غير عادية بالمرة “، يقول عزيز بودربالة، اللاعب الكبير لكرة القدم المغربية. استدعته آسية الوديع لقضاء وقت مع السجناء، والحديث إليهم، وتنظيم مباريات بين فريق منهم وفريق من اللاعبين الدوليين السابقين. وكانت أول مرة سيلعب فيها السجناء خارج القضبان في مدينتي الدار البيضاء وسلا.
وحتى يساهم نزلاء المراكز السجينة اليوم في معارض الصناعة التقليدية وفي المهرجانات ومعارض الكتاب وغيره، فقد أسقطت أيادي آسية الناعمة أسوار السجون المنيعة…
لكن آسية الوديع – الوديعة والناعمة- كانت سيدة صلبه.
وبنكرانها لذاتها، لم تكن تعرف معنى المستحيل. كانت تذهب في وقت متأخر من الليل لمساعدة طفل يقضي ليله في إصلاحيةٍ أو مركزٍ لحماية الطفولة.
تلك كانت ماما آسية.
كلما زادت مسؤولياتها، كلما زادت تضحياتها.
فبعد تقلدها مسؤولية مركز الإصلاح والتهذيب، لم تعد تقضي مع أسرتها الأعياد، وإنما مع السجناء والى جانبهم. وتبذل جهدها لجمع التبرعات لتحضر لهم خرافا وعجولا تنحر لهم في السجن. وكانت تحسس الأحداث دائما بوجودها إلى جانبهم معية أصدقائها وصديقاتها من أعضاء الجمعية أو من خارجها.
استطاعت أن تمكن السجناء من الالتحاق بالتكوين المهني، أو إكمال مسارهم التعليمي… كانت أول من زودهم بالمجلات وأجهزة التلفاز والأفلام وغير ذلك من وسائل التثقيف والترفيه.
اشتغلت إلى جانب آسية الوديع، واشتغل أناس آخرون إلى جانبها، ولي أن أقول إننا لم نر مثيلا لحماس وإخلاص آسية الوديع في المجال الحقوقي والجمعوي، وخصوصا فيما يتعلق برعاية السجناء.
ففي مسيرة حافلة بالقوة والتحدي، كان لي شرف الاشتغال تحت ظلال هذه الأيقونة الوارفة، ومازلت وفيا لهذا النهج النبيل والوطني الصادق الذي اقتبسته من قوتها وشجاعتها النادرة.
رحلت آسية الوديع في 22 نونبر 2012.
عشرون سنة إلا نيف.
رحمها الله، وعوضنا بأمهات أخريات ينهضن بمآسي هذا الوطن العزيز.