مع حلول فصل الربيع، تفوح أغلب شوارع وبساتين ورياضات وبيوت المدن المغربية، سيما العتيقة منها، بأريج زهور أشجار النارنج العطِرَة الزكيّة، التي تعتبر من الأشجار المقدسة لدى الكثير من الأسر المغربية العريقة، إذ يرتبط موسم النارنج عند المغاربة بعادة تقطير الزهر، وهي عادة قديمة تناقلتها النساء المغربيات جيلاً عن جيل، إلى أن أصبحت تظاهرة موسمية تُحيا ذكراها خلال كل فصل ربيع.
ويرجع تاريخ هذه العادة في المغرب إلى قرون خلت، كونها كانت جزءا لا يتجزأ من تقليد ملكي وشعبي؛ سواء تعلق الأمر بالقصر السلطاني أو بمنازل الناس،حيث حرص المغاربة بشكل كبير على تقطير الزهر، من أجل استخراج “ماء الزهر” أو “روح الزهر”. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل قادهم تأثرهم بهذه العادة وافتتانهم بها إلى إدخال طقوس جديدة عليها أحاطتها بنوع من التبجيل والتقديس، تقاسموها مع القصر السلطاني الذي كان يولي هذه العملية حرصا واهتماما كبيرين.
وتقتصر عملية التقطير على النساء سواء تعلق الأمر بالبلاط السلطاني الخاص أو بعموم النساء المراكشيات، اللواتي يحرصن على إتيان العملية في طهارة كاملة، ويحظر على غير الطاهرات المشاركة في العملية، ما يضفي عليها نوعا من القدسية، قبل أن يشرعن في العملية بقراءة الفاتحة والصلاة على الرسول، وإنشاد الأذكار مع الزغاريد، في جو تطغى عليه البهجة والفرح.
وتقام نفس هذه الطقوس تقريبا داخل القصر السلطاني، الذي تتولى فيه عملية التقطير النساء المكلفات بخدمة السلطان، تحت إشراف مسؤولة عنهن تسمى “العريفة”، بعد أن يتم تجميع الزهر من حدائق القصر من قبل الخدم لتقطيره.ومن شروط العملية أن تستكمل المهمة من بدأتها من النساء، قبل أن يوضع ماء الزهر في قوارير يتم تغليفها بالجلد، لتوضع بعد ذلك في صناديق من خشب.
وفي هذا الصدد، يقول مؤرخ الدولة العلوية ونقيب شرفائها عبد الرحمن بن زيدان، في كتابه “العز والصولة في معالم نظم الدولة”؛ “إذا كان زمن الربيع يؤتى بما يكون بالجنان والرياض من ذلك في كل صباح ، ويدفع لعبيد دار الطواشين (العبيد المخصيون) ، فيسلمونه للعريفة (المسؤولة عن تسيير الخدم داخل القصور السلطانية)، فتجمع عليه الأعيان من الإيماء في محل خاص معد لذلك، فيقطرنه، ويجعلنه في قوارير، ثم تجعل على أفواه تلك القوارير أغطيتها، ويحكم سدها، ثم يلف فم القارورة بقطن ويغشى بجلد ويشد شدا محكما، ويجعل في صناديق من عود أو خشب، ويدخل للخزين الخاص، وفي حالة مباشرة التقطير يمنع دخول أي أحد لمكان المباشرة إلا لمن يباشر عادة التقطير وابتدأ العمل معهن، وتجعل القطارات خلف ستر مسدل من كتان أبيض”.
ومن العادات المرعية داخل القصور السلطانية، حصول السلطان على باكورة ما قُطِّر من الزهر، إذ أن الكمية الأولى التي يتم إنتاجها توجه إلى السلطان مباشرة،سواء كان السلطان مقيما داخل المدينة التي تمت فيها عملية التقطير، أو كان خارجها.
ويورد بن زيدان في كتابه العز والصولة، حرص السلطان محمد بن عبد الرحمن أواخر القرن 19 على حصوله على ماء الزهر،الذي كان يعتبر ضروريا في حياة السلطان الخاصة أو أثناء الاستقبالات الملكية، من خلال قوله: “ثم توجه العريفة للجلالة (أي السلطان) حيثما كانت باكورة هذا العام مما قطرته، وربما تتعلق الإرادة الملكية باستيراد بعض مما ذكر حيث كانت فتأمر بذلك”.
لقد باتت مدينة مراكش مكانا تنطلق فيه هذه العادة الموسمية خلال الفترة ما بين 16 و 26 مارس من كل سنة، تحت مسمى “زهرية مراكش”، وهي المناسبة التي تحتفي بتقليد تقطير الزهر، هذا التقليد العريق الذي تحرص المدينة الحمراء على إظهاره من خلال مجموعة من التظاهرات المواكبة لهذه التظاهرة، التي كانت تميز المدينة إلى جانب فاس ومكناس.
ولم يكتفِ القائمون على هذه التظاهرة، بصون هذه المراسم والمحافظة عليها، من خلال “زهرية مراكش” المسجلة منذ 2022 لدى منظمة (الإيسيسكو) كتراث ثقافي للعالم الإسلامي، بل لازال سعيهم لتسجيلها ضمن التراث الثقافي غير المادي للإنسانية لدى اليونسكو قائما.