في مقاهي لوس أنجليس وطوكيو، تصطف طوابير طويلة من الزبائن المتلهفين لتناول مشروب الماتشا، في مشهد يعكس الطلب العالمي المتزايد على هذا الشاي الأخضر الياباني، الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه “الذهب الأخضر” بفضل خصائصه الصحية وطابعه الثقافي الأصيل.
من أوراق “تينشا” إلى مسحوق فاخر
ينحدر مشروب الماتشا من تقليد ياباني ضارب في القدم، إذ يُحضّر من أوراق “تينشا” التي تُزرع في الظل خلال المراحل الأخيرة من نموها، ما يُغنيها بالنكهات والعناصر الغذائية.
بعد الحصاد، تُجفف الأوراق وتُطحن بحجارة تقليدية ببطء شديد حتى يتحول الورق إلى مسحوق ناعم، وهو ما يجعل تحضيره عملاً دقيقًا يستغرق ساعة كاملة لإنتاج 40 غرامًا فقط.
تاريخ طويل في قلب الثقافة اليابانية
ورغم أن الشاي دخل اليابان في القرن التاسع بعد قدومه من الصين، إلا أن الماتشا لم يبدأ إنتاجه إلا في القرن السادس عشر بمدينة كيوتو، حيث ارتبط لاحقًا بمراسم الشاي التي أرساها الراهب الشهير سين نو ريكيو.
أما الشاي الأخضر الأكثر شيوعًا اليوم، “سينتشا”، فلم ينتشر إلا بعد ذلك بقرنين.
تنوّع في الأصناف والاستخدامات
وتتعدد أنواع الماتشا، من بينها “ماتشا المراسم” الذي يُستخدم في الطقوس التقليدية، وصولًا إلى الأنواع المخصصة للاستخدام اليومي أو في الحلويات والمخبوزات.
ولإنتاج هذا الشاي الفاخر، تُغطّى الشجيرات قبل الحصاد بعدة أسابيع بشباك تقلل من تعرضها للضوء، ما يزيد من محتوى الكلوروفيل ومادة ال-ثيانين التي تمنح تأثيرًا مهدئًا للجسم والعقل.
وعندما تُقطف الأوراق يدويًا، تُنقّى من السيقان، وتُبخّر، ثم تُطحن لتصبح الماتشا كما نعرفها.
إنتاج دقيق وتكلفة مرتفعة
يقول المنتج الياباني ماساهيرو أوكوتومي، إن إنتاج ماتشا عالية الجودة يتطلب بناء هياكل معقدة لتظليل النباتات، وعمليات دقيقة لا تقبل التسرع، مضيفا أن هذا ما يجعل إنتاجها مكلفًا، ويصل في بعض الأحيان إلى ضعف تكلفة إنتاج الشاي الأخضر التقليدي.
مشروب يجمع بين التركيز والهدوء
لكن الطعم النباتي الغني ليس وحده ما يجذب المستهلكين؛ فالماتشا باتت تُعرف بفوائدها الصحية الكبيرة، إذ تحتوي على كمية عالية من مضادات الأكسدة مثل “EGCG”، كما تمنح جرعة معتدلة من الكافيين تبلغ في المتوسط ثمانية وأربعين ملغراما لكل كوب؛ أي أقل بقليل من القهوة ولكن أعلى من الشاي الأخضر العادي، ما يجعلها خيارًا مثاليًا للتركيز دون توتر.
بين الطقوس الجمالية وسحر التأمل
ويقول شيجيهيتو نيشيكيدا، مدير مقهى “جوغيتسودو” في حي تسوكيجي بطوكيو، إن جاذبية الماتشا لا تقتصر على الفوائد الصحية، بل تمتد إلى الطقوس الجمالية والروحانية المحيطة بالشاي، حيث يجد الناس في تحضيره لحظة هدوء وتأمل وسط صخب الحياة اليومية.
أرقام قياسية وطلب عالمي
الإقبال على الماتشا بلغ مستويات قياسية، إذ أنتجت اليابان عام 2023 نحو 4176 طنًا من هذا الشاي، مقارنة بـ1430 طنًا فقط في 2012.
واليوم، يُصدّر أكثر من نصف هذا الإنتاج إلى الولايات المتحدة، أوروبا، جنوب شرق آسيا، أستراليا، والشرق الأوسط.
وسائل التواصل… المحرّك الأقوى للرواج
ويُعزى جزء كبير من هذا الرواج إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر ملايين الفيديوهات التي تُظهر طرق خفق الماتشا وتقديمه بأساليب جذابة بصريًا.
تقول ستيفي يوسف، وهي موظفة تسويق، تتناول الماتشا في لوس أنجليس، إنّ جيل زد هو من جعل الماتشا “ترندًا عالميًا”، معتمدًا على منصات مثل تيك توك وإنستغرام ويوتيوب.
نكهة متعددة الأوجه في عالم الطهي
وتجاوز هذا الرواج حدود الشاي ليصل إلى عالم الطبخ والحلويات، ما وسّع قاعدة محبيه إلى شرائح جديدة، لا تقتصر على عشاق الشاي فقط، بل تشمل الطهاة ومحبي التجريب.
ويختم نيشيكيدا حديثه بابتسامة لا تخلو من الدهشة، معترفًا بأن الطلب على الماتشا فاق كل التوقعات.