من حياة افتقدت ملامح الطفولة إلى مجد يظل قريبًا من بساطتها الأولى، تمضي فاطمة هرندي، المعروفة فنيًا باسم راوية، في قدرها الإبداعي بخطى هادئة يرافقها شغف لم يخفت منذ نصف قرن. تعيش الفن كأنها تكتشفه كل يوم، وتصون في أعماقها جوهر الأداء: صدق يلمس القلب وشغف يوقظ المعنى، فيتحول كل دور إلى نافذة على عالم آخر، وكل تجربة إلى بداية جديدة.
حضور يتجاوز الملامح… ويولد من عمق التجربة
تألق راوية لا يرتبط فقط بملامح وجه تحمله السنوات بأناقة، ولا بنبرة صوت تحمل قسوتها وحنينها معًا، وإنما بوعي فني صلب وتجربة تراكمت لتمنحها حسًا مرهفًا بالإيقاع وذكاءً في الإمساك بالموقف الدرامي. تعبر بين التلفزيون والسينما بخفة بصرية، وتنتقل بين الكوميديا والميلودراما باقتدار ينساب طبيعيًا في هوية العمل وروحه.
امرأة تُرى بصرامة وتُعرف برقّة
تلك النظرة التي يراها الجمهور حادة تولّد إحساسًا بسطوة شخصية، لكنها تخبئ هشاشة دافئة يعرفها المقربون جيدًا. سيدة هادئة لا تحب الصخب، تتحرّج من الإطراء، وتتعامل مع سوء الفهم الذي يلاحق صورتها بصفاء يشبه صبر الفنان الحقيقي. أما الواقع، بما يحمله من ألم وتعدد، فهو المعلم الأول الذي شكّل أدواتها وأضاء طريقها نحو النضج.
من مسرح الشباب إلى انفتاح السينما
في أواخر الستينات، وجدت الفتاة التي تبحث عن ملامح ذاتها في وسط أسري مضطرب مساحةً تُنقذها داخل مسرح شباب الرباط. وتقفز سنة 1971 إلى الخشبة مع فرقة القناع الصغير، قبل أن تمرّ عبر تجربة مسرحية أرحب مع فرقة المعمورة. وحين أسدل القدر ستارًا مفاجئًا، وجدت نفسها بعيدة عن الفن لأكثر من ربع قرن، تحمل خيبة قاسية لكنها ظلت تحافظ على جذوة الإيمان بالخشبة والصورة.
ولادة ثانية أمام الكاميرا
كان فيلم “كنوز الأطلس” لمحمد العبازي باب العودة. من تلك اللحظة انطلقت راوية في رحلة جديدة لا تهدأ، تتنقل فيها بين السينما والدراما، وتجرب كل الألوان: من شخصيات مهمشة إلى وجوه كوميدية، ومن أعمال وطنية إلى مشاركات أجنبية تُصوَّر في المغرب، فتثبت حضورًا يحظى باحترام الجمهور والمهنيين.
بصمة خاصة وجرأة في الاختيارات
تملك راوية جرأة واعية تجعلها تذهب نحو أدوار صعبة، وشخصيات تُسائل الصورة النمطية وتُربك توقعات المشاهد. تتفادى الوقوع في التنميط، وتفضل أن تبقى ممثلة ذات وجوه متعددة، وهو ما رسّخته تجاربها التلفزيونية وقدرتها على التلوّن والتكيّف مع متطلبات الدور.
أدوار تبقى في الذاكرة
يتردد صدى حضورها القوي في أعمال المخرج نور الدين الخماري: من “كازانيكرا” بملامح البيضاوية القاسية، إلى “زيرو”، ثم “بورن آوت”. وتسكن أدوارها مع نرجس النجار في “العيون الجافة” ذاكرة السينما المغربية، كما تترك أثرًا وجدانيًا مع عزّ العرب العلوي في “أندرومان” و”كيليكيس”، ومع جيلالي فرحاتي في “سرير الأسرار”، ومع سعيد خلاف في “ألف ميل بحذائي”. ولا تتردد في خوض غمار السينما الجماهيرية عبر “الحاجات” لمحمد أشاور، محتفظة بالبريق نفسه في كل مساحة فنية.
امرأة تحيا أدوارًا كثيرة… وتبقى وفيّة لظلّها الأول
تنتمي راوية إلى فئة نادرة من الفنانين الذين يشبهون شجرة عتيقة تتحمّل الريح وتواصل النمو بثبات. تتقدّم بخطى تُهديها لها موهبة نضجت عبر السنين، وتمنحها حضورًا راسخًا داخل المغرب وخارجه. وكان فوزها بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان طنجة، ثم مهرجان قرطاج، لحظة اعتراف تشبه اكتمال دورة ضوء طويلة. أما تكريمها في مهرجان مراكش، فكان التفاتة محبة من أسرتها السينمائية، تكريمًا لامرأة عاشت الفن بمثابرة، وشاركت جمهورها حياة كاملة من المشاعر والأدوار.
علاء البكري


