فاطمة المرنيسي الخيط الخفي لنسوية
كانت – فاطمة – دوما حريصة على منح الاهتمام كل الاهتمام بذاكرتنا وتراثنا وثقافتنا المغربية
كنت قد التقيت بالراحلة فاطمة المرنيسي سنة 2005، واشتغلت برفقتها إلى أن وافتها المنية سنة 2015. عشر سنوات من العمل كنا نشتغل خلالها ضمن إطارين، الأول يخص الأبحاث الاجتماعية، والثاني يخص أوراش الكتابة. وبصفتي طبيبا نفسيا فقد كانت فاطمة تقوم باستدعائي لمرافقتها والخروج معها خاصة للأحياء الشعبية لكي نرصد ونراقب عن كثب أوضاع الشباب وكل ما يتعلق بمواهبهم وأحلامهم ومستقبلهم. وخلال هذا العمل الميداني الذي يصب في بحر الأبحاث الاجتماعية كانت المرنيسي تركز كثيرا على الأنترنيت والفضاء الرقمي الذي يتيح لها إمكانية تتبع أنشطة الشباب الموهوب سيما أولئك القاطنين في المدن البعيدة ويعانون العزل والتهميش، ومن خلال الأنترنيت أيضا يمكن لهؤلاء الشباب أن يكونوا متواجدين وحاضرين في الساحة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان هناك رسام في مدينة زاكورة جنوب المغرب يدعى “بنور”، وكان يرسم لوحاته الفنية بشكل هاوٍ وسط أحياء وشوارع المدينة، وعاينت عن كثب كيف كانت فاطمة المرنيسي مهتمة به وبما يرسمه، وكيف كانت تتابعه وترافقه إلى أن أصبح ذا حضور وصيت كبير داخل المغرب وخارجه.
لقد كانت فاطمة المرنيسي تولي قدرا ليس بالهين من الاهتمام بطموحات الشباب وصقل مواهبهم وإظهارها للعالم، كما اهتمت بنفس القدر أيضا بناسجات تزنخت، وفي كتابي الذي ألفته عنها وعن حياتها أفضتُ في الحديث عن هؤلاء النسوة الناسجات وكيف كنا نرافقهن، وكيف كنا نحاول فهم طريقة اشتغالهن، وكذلك مراحل تطورهن. فكانت – فاطمة – تطلب منهن نسج زرابي بصفة حرة؛ أي أن يخرجن من دائرة الزخرفة التقليدية المحلية إلى دائرة الزخرفة العصرية الحرة التي تتماشى مع مواهبهن ومع العصر أيضا، وكانت تطلق عليهن اسم “زرابي الأحلام”. وقد عرفت هاته الزرابي شعبية واسعة النطاق، حيث كنا نقدمها في مدينة الرباط من خلال معرض أنشأناه تحي اسم “مقهى الحوار”، وكنا نجتمع فيه مع كوكبة من النساء من ضمنهم هؤلاء الناسجات، فكن يتحدثن عن ما ينسجنه من زرابي ويشرحن طريقة اشتغالهن. كما كانت هناك عروض مماثلة أخرى في عدة مدن داخل أرض الوطن كالدار البيضاء وفاس، وكذلك خارج أرض الوطن كانت أبرزها العاصمة الإيطالية روما.
لقد كانت – فاطمة – دوما حريصة على منح الاهتمام كل الاهتمام بذاكرتنا وتراثنا وثقافتنا المغربية التي باتت تعرف نوعا من الإهمال في وقتنا الحالي، كما كانت حريصة على إيصال صوت هؤلاء الناسجات وغيرهن من النساء الأخريات للعالم.
كانت هذه المحطات الميدانية – في نظري الشخصي – جد مهمة سيما وأنها تجعلنا نقدر ثقافتنا وتدعونا إلى الاهتمام بها.اما بخصوص الإطار الثاني الذي يهم أوراش الكتابة، فإني كنت أشارك في هاته الأوراش على مدار عشر سنوات رفقة المرحومة فاطمة المرنيسي وثلة من الشباب الشغوف بالكتابة، حيث كنا نُكَوِّنُ فريق عملٍ من ستة إلى ثمانية أشخاص، ثم نحدد موضوعا من المواضيع المثيرة داخل المجتمع المغربي، ونشرع بعدها بالكتابة حول الموضوع المتفق عليه. وبعد مرور ستة أشهر نقوم بجمع مواد الموضوع المُنجَز ثم نصدره على شاكلة كتاب. ومن بين المواضيع التي كنا نشتغل عليها أذكر : “بماذا يحلم الشباب؟”، و”عنف الشباب”، و”لماذا يهتم الشباب بمواقع التواصل الاجتماعي؟”… وكانت آخر ورشة للكتابة ترأستها فاطمة تحمل اسم “Le tissu de la singularité”، وتعالج بين ثناياها موضوع الدعوة إلى الحوار وحرية التعبير داخل مجتمعنا المغربي، لكن شاءت الأقدار أن يباغثها الموت وهي لم تكمل معنا هذا المشروع الذي بدأته بروح وشغف وإصراروحزم، الأمرُ الذي دفعنا إلى إصدار الكتاب في وقت لاحق بعد وفاتها. أما بالنسبة لشخصية المرنيسي فقد كانت امرأة خارقة للعادة، لأنها كانت تجمع في شخصيتها بين عالمة الاجتماع، والكاتبة الأديبة، وهذا كان واضحا من خلال أعمالها واشتغالاتها وكتاباتها التي تختلط فيها كل هذه الصفات. ولم تكن – فاطمة المرنيسي – تشتغل كعالمة اجتماع فقط، بل كانت مناضلة من الطراز الرفيع، حيث ظلت تشجع المرأة وتنادي بحريتها وتدافع عن حقها في التعبير وإبداء الرأي داخل المجتمع، وخير دليل على ذلك ناسجات “زرابي الأحلام” بتزنخت، فقد أعطتهن صوتا يعبرن به عما في دواخلهن، وأخرجتهن من قوقعة التقليد إلى فضاء العصرنة والإبداع. فهنا كان يظهر حضور شخصية فاطمة المرنيسي القوية، والذي يجعنا جميعا نقوم بالأعمال المنوطة إلينا بحرفية ودقة وإتقان. وفي كتابي المسمى “Fatima El Mernissi Le File Invisible de féministe “، تحدثت بشكل مستفيض عن كل هاته الأمور وغيرها، وتحدثت عن كيفية لقائي بها، وعن فاطمة المرنيسي المرأة، وعن شخصها، وعن أفكارها، وعن ما عايشته معها خلال تلك العشر سنوات التي جمعتني بها، وكذلك عن ما كانت تكتبه وتهتم به رحمها الله.