ينتصب مسجد باب دكالة في قلب المدينة العتيقة لمراكش، شامخا وشاهدا على إسهام المرأة المغربية ودورها البارز، منذ قرون، في التشييد والبناء.
وشيد هذا المسجد في عهد الدولة السعدية، على يد مسعودة الوزكيتية أم السلطان المنصور الذهبي، التي أبت إلا أن تخلد اسمها في التاريخ ببناء معلمة تاريخية دينية، جمعت فيها مهارات الهندسة والزخرفة الأندلسية والموحدية.
ويعرف مسجد باب دكالة بتسمية أخرى لدى المؤرخين وهي “مسجد الحرة”، نسبة إلى السيدة مسعودة بنت أحمد بن عبد الله الوزكيتي، التي كانت وراء بناء هذا الصرح الديني الواقع في حي باب دكالة، الذي يؤدي إلى “قبيلة دكالة”.
وينم المسجد، الذي بني، حسب أغلب المصادر التاريخية، سنة 1586 ميلادية، على مهارة وعبقرية الصناع في حقبة الدولة السعدية، والتي شكلت امتدادا للمهارات والمعارف التي خلفتها الدولة الموحدية، كما يتميز بلمسة أندلسية واضحة في كل فضاءاته.
ويتألف المسجد، الذي شيد على شكل مستطيل ويمتد على مساحة 2432 مترا مربعا، من قاعة للصلاة، تشتمل على سبع “بلاطات” تتجه عقودها العمودية بعمق المسجد نحو جدار القبلة، ومن صحن تحيط به مجموعة من “الأروقة”.
كما تشتمل قاعة الصلاة على ثلاثة “أساكيب” يتقدمها أسكوب آخر للقبة، ويحد القاعة شمالا أسكوب يطل على الصحن. ويعكس هذا النمط في البناء ما جرت به العادة في بناء المساجد في المغرب آنذاك.
ويتميز سقف قاعة الصلاة بجمالية نقوشه الخشبية الرفيعة، كما تتزين القاعة بثريات نحاسية تقليدية جميلة. ويجمع المسجد، أيضا، بين الزخرفة الكثيفة والمتعددة والخط الزهري، وكذا آيات قرآنية طويلة منقوشة على جوانب المحراب.
وينتصب المحراب وسط حائط القبلة وتحيط بقوسه نقوش نباتية على الجبص وفي جوفه قبة مزخرفة بالمقربص محاطة بزخارف كوفية مطعمة بأقواس، كما زينت واجهته بنقوش غاية في الروعة والجمال تتخللها آيات قرآنية بكتابة كوفية، وعلى جانب المحراب يوجد المنبر المصنوع من الأرز والمزخرف بحشوات هندسية منقوشة نقشا بديعا، يعكس روعة فن النقش المغربي الأصيل.
أما صحن المسجد المكشوف، الذي تبلغ مساحته حوالي 870 مترا مربعا، فتزينه أقواس على الواجهة، وتعلوه نقوش على الجبص، الذي يعلوه أيضا القرميد الأخضر فوقه تسطير باللون الأخضر والأحمر، وفي وسط فناء الجامع نافورة مطوقة بالمرمر مخصصة للوضوء.
أما صومعة مسجد باب دكالة فهي أنيقة مربعة الشكل، يبلغ طولها حوالي 25 مترا وتنتصب في الركن الشمالي الشرقي للمسجد وهي داخلة في مستطيل الجامع وزينت واجهاتها الأربع بتشكيلات هندسية متنوعة، يعلوها جامور به أربع كرات من النحاس الأصفر.
ويتوفر المسجد على ثلاثة أبواب، شرقا وغربا وشمالا، بالإضافة إلى باب “الإمام أو السلطان”، علاوة على مجموعة من المرافق، كالمكتبة التي شيدت في قبلة الجامع وأوقفت عليها جملة من الكتب العلمية.
ومما زاد مسجد باب دكالة رفعة ومكانة في قلوب المراكشيين خاصة والمغاربة عامة، أداء أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس صلاة الجمعة في 1438 هجرية / 2017 ميلادية، كما سلم جلالته في 1440 هــ/ 2019 مـ، “جائزة محمد السادس للآذان والتهليل” لشيخ المؤذنين في المغرب، محمد بوقنطار، الذي قضى 59 عاما في الآذان والتهليل بمسجد باب دكالة.
ويعيش المسجد خلال شهر رمضان الفضيل أجواء روحانية ملؤها الخشوع والابتهال، حيث يحج إليه الناس من كل حدب وصوب بالمدينة الحمراء وناحيتها من أجل أداء صلاة التراويح، كما يعمره قاطنو المدينة العتيقة في الصلوات الخمس وكذا خلال يوم الجمعة.
ويقوم المسجد بدور فاعل في برنامج محو الأمية، خصوصا في صفوف النساء، في إطار تعليم القراءة والكتابة، وذلك عن طريق المساجد، عموما، باعتبارها مكانا للعبادة، ومدرسة لتحصيل العلم، ومجالا للتوعية الدينية والوعظ والإرشاد.
وقال عضو المجلس العلمي المحلي بمراكش، مولاي هشام السعيدي، في تصريح لـ (إم 24) القناة الإخبارية لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن مسجد باب دكالة يعد معلمة تاريخية ودينية في مدينة مراكش، مذكرا بأن المسجد “هو ثمرة إحسان مسعودة الوزكيتية أم السلطان المنصور الذهبي”.
وأشار السيد السعيدي، وهو أيضا خطيب مسجد باب دكالة، إلى أن “هذا الصرح أسس بهمة إمرة ما يبرز إسهام نساء المغرب منذ القدم في تشييد صروح ومعالم التدين”، مذكرا بأن المسجد يعود بناؤه إلى سنة 995 هجرية.
وأضاف أن المسجد عرف توالي علماء، مثل الرحالي الفاروق، والعلامة جبران عبد السلام المسفيوي، مبرزا أن المسجد يتميز بإقامة حفل المولد النبوي الشريف، حيث يحضر أعيان المدينة علاوة على العلماء والأشراف.
وخلص إلى أن المسجد توج بأداء أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس صلاة الجمعة في المسجد مرتين، لافتا إلى أن هذه الحظوة التي نالها المسجد هي تثمين من أمير المؤمنين لهذه المعلمة الدينية التاريخية.