وديع آيت حمزة… فتى “دافوس” الذي لا ينسى من أين أتى

- Advertisement -

يأخذه الخطو بعيدا في الآفاق، من مطار لآخر، من عاصمة لأخرى، يلتقي شخصيات من قادة العالم ومشاهيره، يدير مؤتمرات، يحرر تقارير دولية، لكنه لا يغفل أبدا عن النظر إلى الوراء، ليتفقد امتداد الأثر، ويقتفي وصل الرحلة، وإن تعددت الأسماء وتعاقبت الأزمنة وتناسخت السياقات.

لم تبدأ الرحلة التي قادته ليصبح رئيسا لمنتدى القادة العالميين الشباب في سويسرا، من الرباط، التي رأى بها النور قبل أربعين سنة، بل من قرية نائية في ضاحية قلعة مكونة. نعم، هو ابن العاصمة المغربية التي يحبها، لكن الذاكرة جذر ضارب في تربة تلك المنطقة، التي تحيل إلى طيب الورد لدى الزوار العابرين، وإلى شظف العيش وقساوة الصراع مع الطبيعة التي صنعت من أبنائها محاربين من أجل الحياة.. وأحيانا من أجل حظ من المجد.

ليست مسيرته إلا امتدادا لمسيرة أبيه، محمد، حين خرج من البلدة صغيرا بعد أيام “المسيد” إلى بومالن دادس، ثم ورزازات لينتهي جامعيا بارزا في الجغرافيا القروية بالرباط. ترافقه قصة الوالد الملهم، الذي لم يكن يملك غير حلم وعزم لتكون إرادة العلم والنجاح هي العليا، وليكون أول خريج بدرجة دكتور من سلالة ذلك المكان القصي.

هي ذاتها إرادة التجاوز، وتحدي تحقيق الذات، والرغبة في خوض مغامرة تذهب بعيدا في جسد العالم. لذلك، فإن كيان وديع آيت حمزة، متصل أبدا بموطن الآباء. ابتسامة منطلقة، سمرة خفيفة، محيا يطابق الاسم، ولكنة تحمل نثرات من لسان سوسي مشذب، عنوان إرث جيني مستبد، رغم عاصمية الولادة والنشأة. حتى العطلة لا تكتسي نكهتها دون النزول بالبلدة. ليس استجماما فقط، بل دروسا من اللقاء بالناس البسطاء وهم يتدبرون يوميات صعبة بزاد وفير من السكينة والرضا وفن العيش على طريقتهم.

وديع آيت حمزة، سليل امرأة لم تحقق حلم التمدرس، هو ثمرة المدرسة العمومية في حي يعقوب المنصور. كانت منحة التفوق سنده، مع قرض عائلي لتمويل تكاليف الدراسة في جامعة الأخوين، حيث تفتقت بشائر التحليق في العالم الفسيح. هنا أيضا، كانت الجذور منطلق المبادرة. جمعية طلابية لتثمين الثقافة الأمازيغية وناد للمستكشفين حمله وزملاءه لتجديد الوصل بمناطق نائية في البلاد. كانت بطاقة تعرف أنثروبولوجية وثقافية وتنموية أيضا على أمكنة ومجموعات سكانية تصنع ثراء هذا البلد وجماله المتعدد وطابعه المركب أيضا. ثم ها هي ملكات التواصل والانفتاح تشحذها تجارب المشاركة في البرلمان الشبابي الأورومتوسطي ومنتدى الشباب العربي برعاية جامعة الدول العربية.

من إفران، يواصل وديع دراساته العليا في إطار يكثف رؤيته العابرة للحدود، ليحصل في جامعة الحسن الثاني على ماستر في الشؤون الأورومتوسطية، ضمن دبلوم تشارك فيه 16 جامعة، من إيطاليا وإسبانيا أساسا. كان الأفق الدولي قدرا وشغفا يتغذى على فرص لتطوير الذات يتطلع إليها الشاب أحيانا، ويختلقها بإرادته الخاصة أحيانا أخرى.

في مدرسة الحكامة والاقتصاد بتكنوبوليس الرباط، انفتح مجال مهني مكنه من ربط الصلة بالعالم الفسيح. يرن الجرس السويسري، فيحزم وديع حقائبه ليحط سنة 2013 في أرض الفرص والتحديات. تدرج منذئذ في الهيئات الشبابية لمنتدى دافوس الاقتصادي إلى حين تعيينه عام 2022 من قبل المؤسس كلاوس شواب رئيسا لمنتدى القادة الشباب. حيوية الشاب وروح المبادرة فرضت نفسها في سفوح الألب وخارجها.

اليوم الأول.. صدمة ودرس. كان عليه أن يفتح صدره ويستنفر حواسه لأنه سيتعلم كل لحظة. “الثقة..الثقة”، رددها وديع أكثر من مرة في حديثه لوكالة المغرب العربي للأنباء. هي عماد النهضة وضامن ديمومتها والسر الذي يصنع الفارق. تأمل كثيرا في البطاقة البنكية ذات الاعتماد المفتوح التي تسلمها من إدارته المشغلة لتدبير حاجياته في انتظار التسوية الرسمية لوضعه المادي والقانوني. نظام يضعك في مواجهة ضميرك وروح مواطنتك قبل كل شيء. ثم يستدرك، وهو المستقبلي المؤمن بكنوز الماضي: “هذا لم يكن غريبا عن ثقافتنا. كانت معاملات الناس قائمة على ‘الكلمة’ أو كناش صغير لتسجيل الدين إلى أن يفرج الله”. لا يلهيه الانبهار بالتقدم المادي عن تلمس عمق القيم الأخلاقية التي تسند كل مسار ناجح لتقدم الأمم.

يجد وجها ثانيا لعظمة النموذج السويسري في التفوق الصناعي في قطاعات ليست من صميم حاجيات البلاد، أو لا تتوفر أصلا على خاماتها. لا حبة كاكاو تنبت في أرض هذا العملاق العالمي في صناعة وتجارة الشوكولا، ليس بها ناطحات سحاب تفسر توجهها نحو صناعة المصاعد، لا نظام غذائي تقليدي دسم ومعقد كان يمكن أن يبرر التميز في صناعة تجهيزات المطابخ. والحال أن البلد متصدر في كل ذلك، كما لو أنه في تحد مع الطريق الصعب لخلق الثروة.

يعود باطراد إلى جيل والده الذي كان يمشي حافيا، ويكتفي بكيس من الكسكس المحلي “الحايل” وجبة متكررة لأيام الأسبوع، ليسوغ صرامته في التفاعل مع شباب مغرب اليوم، وخصوصا من يرفع منهم شكوى الآفاق الضيقة. المتفوقون يصنعون الفرص من المشاكل والمآزق، يردد بانفعال. الإرادة والمبادرة مستقبل الفرد والجماعة معا. الإمكانيات الاقتصادية للمغرب، كما يرى، أكبر بكثير من حركية انخراط الشباب في المبادرات المنتجة، والمقاولات الناشئة التي تبني بها عدة دول موقعها في عالم الثورة الرابعة. بالطبع، على الدولة أن تعمل أكثر من أجل تشجيعهم ومواكبتهم، لكن الانتظارية موقف يرفضه بحزم. ونماذج النجاح التي يجسدها هو وجمع غير قليل من الشباب المتفوقين داخل البلاد وخارجها، تعضد رأيه القاطع.

يرأس وديع اليوم هيئة تضم 1400 من القيادات الشابة السابقة أو الناشطة. يشرف كل عام على اختيار 100 عضو جديد عبر العالم. يحاول المنتدى تعزيز مشاريع التمكين للشباب في السياسات العمومية وفي مراكز صناعة القرار الوطني والدولي، وتوجيههم نحو رفع رهانات عالم متغير، يصطدم بإشكاليات التغير المناخي والاستدامة والهجرة والأمن الغذائي وغيرها. يصاحبهم في عمليات تأطير داخل أرقى الجامعات، من يال إلى هارفرد وستانفورد. يسافر وديع آيت حمزة ويعود بانتظام. المغرب أكثر من مكان لأنه فكرة طموحة عن المستقبل، يزخر بطاقات يراها قادرة على تحقيق القفزة المنتظرة. “لا ينبغي أن نغفل أبدا عن سؤال: من أين أتينا؟ لأنه لا يقل أهمية عن السؤال الموالي: إلى أين نمضي؟”، لذلك فإن المذكرة الشخصية تقول إن الأسرة ستمضي عيدها المقبل في “لبلاد”.