في أعلى نقطة من العالم، حيث لا شيء يعلو فوق الغيوم سوى الصقيع والموت، يمتدّ جبل إيفرست كعرش جليديّ يحرسه الصمت ويكلّله الكبرياء.
هناك، لا تسكن الآلهة، بل تستريح أجساد الذين تجرؤوا على لمس السماء، ثم خذلتهم أنفاسهم الأخيرة.
الجبل الذي يبتلع الذاهبين إليه
لم يكن جورج مالوري يعلم، حين اختفى عام 1924 وسط الضباب، أنه سيصبح أول طيف يسكُن الذاكرة الجماعية لقمة إيفرست.
ظلّ لغز اختفائه يحوم في الهواء حتى وُجد جسده بعد خمس وسبعين سنة، ممدّدًا كما لو أنه كان نائمًا في حضن الجبل، بوجه مشدود إلى الأعلى، كما لو أنه مات وهو ينظر إلى القمة التي لم تُسجّل له رسميًا قط.
صاحب الحذاء الأخضر: الجسد الذي صار معلَمًا
في عام 1996، صعد المتسلق الهندي تسوينغ بلاجور نحو القمة، لكنه لم يعد. توقّف داخل كهف صغير على ارتفاع يفوق 8500 متر، ونفد منه الأوكسيجين. جلس يستريح… ثم لم ينهض أبدًا.
جسده، المُتجمد في وضعية الجلوس، ظل هناك بلا دفن، وقد بقيت حذاؤه الأخضر الزاهي مرئيًا لكل من يمرّ بجانبه.
صار الجثمان علامة ملاحية على الطريق تُرشد المتسلقين إلى القمة، حتى سُمّي المكان بـ”كهف الحذاء الأخضر”.
لقد أصبح تسوينغ بلاجور أحد أشهر الموتى على إيفرست، جسدًا لا يزال هناك، يحدّق إلى الأبد في الفراغ الأبيض، وكأنّه حارس أبدي لذلك الحلم القاتل.
ديفيد شارب: الموت بصمت في الزحام
في موسم 2006، تسلّق البريطاني ديفيد شارب إيفرست وحيدًا. وجد ملجأه الأخير في نفس الكهف الذي مات فيه “صاحب الحذاء الأخضر”.
جلس شارب هناك يتجمّد ببطء، فيما مرّ عليه أكثر من 40 متسلقًا، ظنّوه ميتًا أو تجاهلوه. لم يساعده أحد. مات وهو جالس، مفتوح العينين، في مكان أصبح يعرف لاحقًا بـ”كهف شارب”. مات لأن أحدًا لم يتوقف كفاية ليستمع إلى أنينه.
فرانشيسك أرنولدو: قلب توقف عند القمة
في ماي 2022، صعد الإسباني فرانشيسك أرنولدو إلى القمة، وقف هناك كأنما بلغ الخلود. لكن قلبه خانه عند النزول، فسقط وسط “منطقة الموت” دون أن يبلغ المخيم الرابع. لم يُنقل جثمانه قط، إذ تجمّد هناك في صمته الأبدي، مثل كثيرين غيره.
هانز كريستيان دوسنر: عندما لا يعود المرء من الحلم
كان الألماني هانز كريستيان دوسنر يحلم بالوصول إلى السطح الأبيض منذ صغره. في 2010، اقترب من القمة كثيرًا، لكنه انهار فجأة في نزوله.
أشار المرشدون إلى أنه أصيب بـ”وذمة رئوية”، وهي أحد أمراض الارتفاع القاتلة. لم يُكمل الحلم، ولم يعد.
هيلاري نيلسون: السقوط من الحافة الأخيرة
كانت هيلاري نيلسون، متسلقة أمريكية مرموقة، تعرف إيفرست كما يعرف القلب نبضه. لكنها في 2022، وفي أثناء محاولة التزلج من القمة مع شريكها، انزلقت وسقطت في هوة جليدية. استغرق البحث عن جثتها أيامًا. الجبل لم يُعدها بسهولة. كان يحتفظ بها ككنز ثمين.
سوبراتا غوش: آخر أنفاس الحلم
في ماي 2025، لفظ المتسلق الهندي سوبراتا غوش أنفاسه على درب النزول. كان قد حقق حلمه، التقط صورته على القمة، لكنه لم يتمكن من النجاة من مرض الارتفاع. مات متعبًا، شاحبًا، محاطًا بصمتٍ كثيف لا تقطعه سوى خطوات المتسلقين خلفه.
فيليب سانتياغو: الحلم الذي توقّف قبل الأوان
الفلبيني فيليب سانتياغو كان على بعد ساعات فقط من المجد، لكنه توفي في المخيم الرابع، في ليلة باردة لا يشعلها شيء. لم يبلغ القمة أبدًا. لم يعرف أحد سبب وفاته الدقيق: مرض الارتفاع؟ أوكسيجين ناقص؟ أم أن روحه خافت من الجبل في اللحظة الأخيرة؟
وادي قوس قزح: معرض الموت العلني
على طريق القمة، تقع منطقة يُعرفها المتسلقون باسم “وادي قوس قزح”، ليس لأنه جميل، بل لأن الجثث المنتشرة فيه ترتدي سترات ملونة بألوان زاهية، جُمدت في لحظة موتها. تُركت هناك، لأن إنقاذ الموتى على إيفرست أمر مستحيل. وحده الجبل يقرّر من يبقى فيه، ومن يُعاد.
النهاية لا تشبه البدايات
هؤلاء ليسوا أسماء عابرة في سجلّ الصاعدين. إنهم شهداء الحلم، أولئك الذين كانت رغبتهم في ملامسة السماء أقوى من تحمّل أجسادهم للعلوّ. إيفرست، في صمته المهيب، يواصل ابتلاع من يتحدّونه، ويخلّدهم بجمودٍ جليل.
هناك، لا توجد قبور، ولا صلوات. فقط الريح، وجثث ساكنة كأنها نُقشت في الجليد لتذكّر الجميع: ليس كل من صعد، عاد.