فوق سُحب العالم، عند موضعٍ لا تُلامسه سوى همسات الريح، يكمن لغز لا يزال يقضّ مضجع التاريخ منذ مئة عام. إنه لغز المتسلق البريطاني أندرو “ساندي” إيرفين، الشاب الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره حين تحدّى المستحيل، فصعد إلى السماء مع رفيقه جورج مالوري، واختفى إلى الأبد عند مرتفعات إيفرست الجليدية.
آخر الأقدام قبل السماء
في الثامن من يونيو عام 1924، شوهد إيرفين ومالوري للمرة الأخيرة على ارتفاع شاهق لا يفصل بينهما وبين القمة سوى 240 متراً فقط.
بدت صورتهما كنقطتين سوداوين في قلب العاصفة، قبل أن تبتلعهما بياضات الجبل إلى غير رجعة.
ومع مرور العقود، تحوّلت قصتهما إلى واحدة من أكثر ألغاز التسلق شهرةً، وموضوعًا لجدلٍ لم يخمد بين مؤرخين ومغامرين يتساءلون: هل بلغا القمة قبل أن يسقطا في هوّة النسيان؟
مالوري يعود من الجليد…وإيرفين يظلّ مفقودًا
في عام 1999، أعادت الثلوج جثة جورج مالوري إلى الظهور، ملفوفةً في صمت القطب وبقايا حبال الانهيار. لكن كاميرته التي قد توثق لحظة الوقوف على “سطح العالم” لم تكن معه.
أما إيرفين، فبقي طيفًا يتجوّل بين الكتل الجليدية، وشبحًا لا يكشف سره سوى نهرٍ صامت يتآكل بفعل ذوبان الجليد.
جوربٌ يُنير طريق البحث
في ربيع 2024، بعد قرنٍ من الغياب، عاد الأمل حين عثر فريق من متسلقي قناة “ناشيونال جيوغرافيك” على بقايا قدم داخل حذاء متهالك وجورب صوفي خُيط عليه الاسم: “A.C. Irvine”.
كانت البقايا مستلقية في نهر رونغبوك الجليدي، تحت الواجهة الشمالية لجبل إيفرست، على ارتفاع يقلّ عن موضع اكتشاف جثة مالوري، وكأن الزمن أسدل عليهما ستاره في خطٍ متوازٍ.
الجورب، الحذاء، الفأس الثلجي الذي عُثر عليه قبل شهور فقط… كلها أدلة أعادت فتح ملف اللغز المغلق، وأحيت آمالًا بأن تكون كاميرا إيرفين التي رافقته لا تزال قريبة، مدفونة في الجليد، حافظةً في أحشائها شهادة تاريخية قد تغيّر سردية من كان أول من صعد إلى القمة.
دموع العائلة وصمت الجبل
مع كل كشف، تتسارع دقّات قلوب المؤرخين، وتتساقط دموع عائلة إيرفين. جولي سامرز، ابنة أخته وكاتبة سيرته الذاتية، انفجرت بالبكاء حين علمت بأمر الجورب.
تقول سامرز والحنين يهز كلماتها: “عشت مع قصة العم ساندي منذ كنت في السابعة… وعندما رأيت اسمه على الجورب، كانت لحظة استثنائية مؤثّرة”.
اليوم، تُجري العائلة اختبارات الحمض النووي لمطابقة الرفات، فيما لا يزال العالم يترقب الإجابة التي طال انتظارها: هل مات إيرفين بعد أن وطئ القمة؟ أم أنه قضى وهو على بعد خطواتٍ منها، دون أن يدرك أن اسمه سيُخلّد كأعذب ألغاز المغامرة الإنسانية؟
حين يتحوّل الجبل إلى شاهد
منذ عشرينات القرن الماضي، ابتلع جبل إيفرست أكثر من 300 روح، كانت تحلم بلمس قمته. لكن قصة إيرفين ومالوري وحدها بقيت تُروى بصوت الجبل ذاته، بلغة الثلج والزمن. هما الحلمان المجمّدان، والرحلة التي بدأت ولم تصل، أو ربما وصلت… وصمتت.
وفي انتظار الحقيقة الأخيرة، تبقى قصة أندرو إيرفين مرآةً للجرأة البشرية، ودرسًا في حدود الطموح، وشاهدًا على أن بعض الأسئلة لا تُجاب إلا حين يذوب الجليد، وتُفتح الكاميرات.