في صباحٍ رائق من عام 1991، رنّ هاتف قسم التحرير بمجلة فرح، غير أن الرنين هذه المرة لم يكن كسابقاته، إذ جاء الاتصال من جهة رفيعة المقام: وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة. كان الصوت على الطرف الآخر يحمل رسالة خاصة: الأستاذ عبد الحق المريني، مدير التشريفات الملكية والأوسمة، يود مكالمتنا.
تسلمت مديرة النشر السيدة فوزية طالوت المكناسي المكالمة، وقد كانت تعرف الأستاذ المريني سماعًا ورؤية، من خلال حضوره في مناسبات عامة، دون أن يسبق لها لقاؤه وجهًا لوجه. بحديثه الهادئ ولباقته المعهودة، أعرب عن متابعته لمجلة فرح، وعن إعجابه بما تنشره من مضامين تهمّ قضايا المرأة المغربية. ثم عرض على مديرة النشر فكرة مشروع مشترك، يحمل عنوان: “مسيرة المرأة المغربية في عهد الاستقلال: لمحات وإطلالات”، وهو عمل توثيقي يستند إلى أرشيف غني من قصاصات الصحف التي دأب على جمعها لعقود.
كان اللقاء الأول بمثابة افتتاحية لمسار تعاون عميق. تم استقباله في مقر المجلة، فتعرف الطاقم بأكمله وقتها على رجل يجمع بين الوقار والبشاشة، موسوعي المعرفة، رقيق العبارة، يحمل في قلبه حبًا كبيرًا وتقديرًا صادقًا للمرأة المغربية. رافقته في ذلك الاجتماع زوجته، السيدة الراحلة للا ربيعة المريني، التي تركت بدورها انطباعًا جميلاً في النفوس.
توالت اللقاءات بعدها، بين أروقة المجلة ومكتبه بالقصر الملكي العامر في الرباط. وكان العمل المضني يتقدم خطوة بعد خطوة، حيث استغرق عامًا كاملاً من التفريغ الدقيق لأرشيف القصاصات الصحفية التي جمعها الراحل بعناية الباحث وحس المؤرخ.
ولأن المشروع كان سيصدر باللغة العربية، في حين أن طاقم المجلة كان يتكوّن في أغلبه من صحفيين تلقّوا تكوينهم باللغة الفرنسية، تمت الاستعانة بالأستاذة سامية فنيش، التي انضمت إلى الفريق بفضل ملكتها اللغوية الرفيعة.
وقد تكفلت فنيش بمرافقة الأستاذ المريني في مرحلة الصياغة والتحرير والتدقيق، فكان حضورها إضافة نوعية للعمل من حيث اللغة والروح.
وهكذا، لم تكن تلك المكالمة مجرد بداية تعاون مهني، بل كانت مدخلًا إلى تجربة إنسانية عميقة، جمعت بين شغف التوثيق وصدق الانتماء، وظلت محفورة في الذاكرة كشهادة على الوفاء لقضايا الوطن، وعلى المكانة الرفيعة التي خصّ بها عبد الحق المريني صوت المرأة المغربية عبر الزمن.
غيابُ شمعةٍ من شموع الذاكرة المغربية
في بداية هذا الأسبوع، امتدت يد الغياب لتطفئ شمعة من شموع الذاكرة المغربية. غاب الأستاذ عبد الحق المريني، ذلك الرجل الذي ظلّ صوته لسنوات طويلة صدىً من صدى المؤسسة الملكية، ومرآةً تعكس بأمانة وعلم نبض التاريخ وروح الدولة.
لم يكن مجرد ناطق رسمي أو مدير، بل كان مؤرخًا للذاكرة الوطنية، مؤمنًا بوجوب حفظ الموروث وصون القيم، وجعل من حبه لوطنه مدادًا لا ينضب.
رحلة العلم والمعرفة
وُلد عبد الحق المريني في الرباط عام 1934، حيث بدأ رحلته التعليمية الأولى بحفظ كتاب الله، ثم اتسعت مداركه في رحاب العلم واللغة والثقافة.
تدرج في المراحل الأكاديمية حتى نال دكتوراه الدولة في الآداب، وأصبح أحد أركان البحث العلمي والتاريخي بالمغرب، مؤلفًا غنيًا بالمعرفة ومُكرسًا لتوثيق الحقائق الوطنية والإنسانية.
مسيرة وطنية حافلة بالعطاء
لم تكن مسيرته مجرد درب علمي، بل كانت رحلة وطنية شاقة، قضى خلالها سنوات في خدمة المؤسسات، من التعليم إلى إدارة التشريفات الملكية، ثم ناطقًا رسميًا باسم القصر، حيث ظلّ صوت الحق والصدق في نقل رسائل الملك والتواصل مع الشعب، حاملاً رسالة ثقافية ووطنية عميقة.
إنسانية وتقدير خاص للمرأة المغربية
كان عبد الحق المريني أكثر من رجل دولة؛ كان إنسانًا يُحترم بسمو أخلاقه، وبشاشة وجهه، وبهدوء كلماته. عرف بمحبة خاصة للمرأة المغربية، التي كان يراها عنصراً فاعلاً في بناء المجتمع، وحاول عبر مشروعنا المشترك أن يرسم تاريخها بنبل وشفافية، مستعينًا بأرشيفه الثري ووعيه العميق بقضايا العصر.
صوت الذاكرة وصانع الحاضر
برحيل الأستاذ عبد الحق المريني، فقد المغرب قامة وطنية أضاءت دروب المعرفة، ورسمت بصمات لا تُمحى في صفحات التاريخ المغربي الحديث، فكان بحق صوت الذاكرة وصانع الحاضر، الذي سيبقى ذكره حيًا في قلوب كل من عرفوه وقرأوا ما تركه من آثار.
