في مشهد تربوي يعكس تحولات نوعية في بنية التعلّم بالمغرب، برزت الفتيات، مرة أخرى، كعنوان للجدّ والمثابرة، بعد أن تصدّرن نتائج الدورة العادية من امتحانات البكالوريا لسنة 2025 في عدد من جهات المملكة.
لقد جاءت تاء التأنيث هذه المرة محمّلة بأعلى المعدلات، وبقصص نجاح ملهمة، تعكس ليس فقط براعة فردية، بل أيضًا صعودًا جماعيًا لأنوثة المعرفة والانضباط الدراسي.
هبة بناني وعمر الحريري: صدارة وطنية لكن التميّز الأنثوي لافت
في مقدّمة النتائج الوطنية، تقاسمت التلميذة هبة بناني، من جهة الرباط–سلا–القنيطرة، صدارة البكالوريا مع زميلها عمر الحريري، بعدما حقق كل منهما معدل 19.61 في شعبة العلوم الفيزيائية – خيار فرنسية.
وبينما يُعد هذا التتويج مشتركًا من حيث الأرقام، إلا أن البروز اللافت للفتيات في معدلات جهة الرباط وما يليها، رسّخ حضورا أنثويًا كثيفا في واجهة التميز.
أميمة الراكعي: إشراقة الشمال وعنوان للانضباط الهادئ
من طنجة، مدينة الضوء والتنوع، لمع نجم التلميذة أميمة الراكعي، التي خطّت اسمها في سجل التفوق بتحقيقها أعلى معدل على مستوى مديرية طنجة-أصيلة، وهو 19.41، في شعبة العلوم الرياضية “ب”.
تنتمي أميمة إلى الثانوية التأهيلية العمومية ابن بطوطة، حيث تتوفر فقط الشعب العلمية، مما يعكس انخراطها في فضاء تنافسي يتطلب التفرغ الكامل والتحدي المتواصل.
النجاح، كما تقول، لم يكن نتيجة ضغوط أسرية، بل ثمرة دعم متواصل من أبويها وأساتذتها، والاعتماد على وتيرتها الخاصة في التعلّم.
في شهادتها الصادقة، يبدو التفوق نتيجة طبيعية لمسار تربوي متوازن، يمزج بين الاجتهاد الأكاديمي والراحة النفسية. وهي اليوم تتأهب لاجتياز مباريات المدارس العليا، بحثًا عن تكوين يمكنها من بناء مستقبل مهني حافل بالعطاء.
ملاك بركان: زهرة الشرق وامتداد لثقافة أسرية علمية
وفي الجهة الشرقية، تحديدا بمديرية وجدة – أنجاد، تألقت التلميذة ملاك بركان بمعدل 19.59، محققة ثاني أعلى معدل وطني، والأول جهويا. تنتمي ملاك لمؤسسة خصوصية، وتدرس بشعبة العلوم الفيزيائية – خيار فرنسية،
وعبّرت ملاك في أكثر من مناسبة عن امتنانها للدعم العائلي، حيث يعمل والداها في الحقل الجامعي، مما منحها بيئة محفزة على التحصيل والانضباط.
وترى بركان أن المثابرة اليومية هي مفتاح النجاح، وهي الآن توازن بين ميولها نحو الطب والهندسة، منتظرة لحظة الحسم في اختيار المسار الجامعي.
والدها يشدد على حرية القرار، معتبرا أن التوجيه لا يلغي إرادة التلميذ، بل يصاحبها. وهو موقف يعكس وعيا تربويا ناضجا قلما نجده في مجتمعات تربط النجاح بمهن محددة مسبقا.
كوثر أبعلال: من رباط الخير إلى منصة المجد
من عمق الأطلس المتوسط، وتحديدًا من جماعة رباط الخير بإقليم صفرو، كتبت التلميذة كوثر أبعلال قصة نجاح استثنائية، بحصولها على معدل 19.23، متربعة على عرش التميز بجهة فاس – مكناس.
تتابع دراستها بالثانوية التأهيلية مولاي إدريس الأكبر، وقد واجهت ظروفا اجتماعية واقتصادية صعبة، لكنها حوّلت الهشاشة إلى دافع للنجاح.
كوثر لم تبدأ الاستعداد للبكالوريا في اللحظة الأخيرة، بل وضعت لنفسها نظامًا صارمًا منذ انطلاق الموسم الدراسي، معتمدة على ساعات الصباح لتركيز أكبر.
ولأن المحيط الأسري كان متواضعًا، وجدت في دعم والدتها، وفي صبر والدها المريض، محركًا عاطفيًا وجبّارا.
أما حلمها، فمعلّق على آفاق الطب العسكري، رغبةً منها في الجمع بين التفوق والعطاء الإنساني.
لغة الأرقام تؤكد الحكاية: إناث المعرفة يتصدرن
في جهة الشرق، شكّلت الفتيات نسبة 59,24% من مجموع الناجحين في الدورة العادية للبكالوريا، مقابل 40,76% فقط من الذكور، وهو فارق كبير يؤشر على ميل واضح لصالح الإناث، ليس فقط في نسب النجاح، بل أيضًا في تحصيل أعلى المعدلات.
وفي جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، نجحت أميمة الراكعي في تمثيل الجهة بتفوق لافت، ضمن أكثر من 22 ألف تلميذ وتلميذة اجتازوا الدورة العادية، التي سجلت نسبة نجاح عامة بلغت 62.72%.
التلميذات المتفوقات: صور مشرقة لوطن يتغيّر
وتتكرر الأسماء الأنثوية، وتتصدر النسب في مختلف الجهات، من الشمال إلى الجنوب، ومن الحواضر الكبرى إلى القرى النائية.
ويبدو أن المغرب يشهد اليوم تحوّلا عميقًا في صورة التلميذ الناجح، حيث لم تعد الامتيازات المجالية أو الطبقية هي المحدد الوحيد، بل صارت الإرادة النسائية، المدعومة بالبيئة الأسرية والمؤسساتية، قادرة على صنع الفارق.
نجاحات أميمة وملاك وكوثر وهبة لا تمثّل فقط إنجازًا فرديًا، بل تقدم شهادة حيّة على أن الاستثمار في الفتاة المغربية هو استثمارناجح في المستقبل.
علاء البكري