من قمة توبقال إلى قمة إيفرست، ومن ربوع الأطلس إلى مرتفعات الأنديز، شقّت المهندسة المغربية بشرى بيبانو طريقها بثبات وعزيمة، لترسم على جليد القمم توقيع امرأة لا تعرف المستحيل.
إنها ليست فقط أول مغربية وشمال إفريقية تصل إلى “سقف العالم”، بل هي أيضًا أول عربية وإفريقية تُنهي تحدي “القمم السبع”، بإنجازات جعلت منها رمزًا للقوة والصبر والإرادة.
وراء هذه البطلة قصّة امرأة جمعت بين الأدوار المتعددة: زوجة، وأم، ومهندسة، ومغامِرة. لكن كل هذه العناوين لم تحجب عنها حلم الصعود، بل كانت وقودًا لمسيرتها نحو الأعالي.
ورغم تحديات الطبيعة وتضاريس المجتمع، ظلت بشرى بيبانو مخلصة لنداء القمم، مؤمنة أن الطريق إلى الحلم لا يُمهَّد، بل يُنتزع بخطى ثابتة ونَفَس طويل.
في هذا الحوار الحصري، تفتح بشرى قلبها لتحدثنا عن بداياتها، عن الصعوبات والانتصارات، عن القمم التي تسلقتها والتي ما تزال تتوق إليها، وعن الرسائل التي تودّ أن تهمس بها في آذان النساء الحالمات.
س: في البداية، نود أن نعود بكِ إلى نقطة الانطلاق: كيف اكتشفتِ شغفكِ بتسلق الجبال، وما الذي أغراكِ بهذا العالم القاسي والجميل في آن واحد؟
ج: كانت البداية من قمة توبقال، أعلى قمة في المغرب، وهناك اكتشفتُ شغفي الحقيقي بتسلق الجبال. من أعاليها انفتحت أمامي مناظر طبيعية خلابة وصور مبهرة، كما عرفت طعم التحدي لأول مرة. أن تصل إلى أعلى نقطة في وطنك، متحديًا نفسك وظروفك، ذلك يمنحك قوة وثقة لا توصفان. ومن هناك بدأت رحلتي، أولًا مع الجبال المغربية، ثم مع القمم العالمية.
س: أنتِ أول مغربية تتسلق قمة إيفرست، وأول عربية وإفريقية تُكمل تحدي “القمم السبع”. كيف كانت رحلتكِ النفسية والذهنية عبر هذه المغامرات؟ وهل شعرتِ يومًا أنكِ تواجهين المستحيل؟
ج: بالفعل، تسلق القمم السبع – وهي أعلى قمة في كل قارة – لم يكن بالأمر السهل. واجهت تحديات جسيمة، ليس فقط على مستوى الجسد، بل على المستوى المجتمعي والثقافي أيضًا. كان هدفي أن أكسر الصورة النمطية المرتبطة بالمرأة المغربية والعربية والمسلمة.
التخلي عن العائلة، ومغادرة راحتي لفترات طويلة، والعيش في ظروف قاسية وخطرة… كلها تجارب تطلبت قوة نفسية استثنائية. لكن الإيمان بالحلم جعلني أواصل، وكنت دائمًا أؤمن أن القوة الذهنية هي الفارق الحقيقي، لأنها التي تُمكّنك من الصبر والثبات وسط كل الصعوبات.
س: تُلقبين بـ”سيدة القمم” و”المرأة العنكبوتية” و”طائرة القمم”… ما اللقب الذي تفضلينه؟ ولماذا؟ وهل ترينه تكريمًا أم مسؤولية مضاعفة؟
ج: اللقب الأقرب إليّ هو “سيدة القمم”، لأنه يُجسد مساري الحقيقي في تسلق العديد من القمم عبر العالم، خصوصًا تلك التي تفوق ارتفاعها 8000 متر في سلسلة الهيمالايا، كإيفرست، وأنابورنا، ولوتسي.
بالنسبة لي، هذه الألقاب شرف وتكريم، لكنها أيضًا مسؤولية. أحاول من خلالها أن أكون مصدر إلهام للفتيات، وأن أُثبت لهن أن لا شيء مستحيل، وأن الطريق نحو تحقيق الأحلام يبدأ من الإيمان بها.
س: بين كونكِ مهندسة دولة، وزوجة، وأمًّا، ومتسلقة جبال… كيف تمكنتِ من الحفاظ على هذا التوازن بين الحياة المهنية والشخصية والشغف الرياضي؟
ج: السر كان في تنظيم الوقت وتحديد الأولويات. كنتُ دائمًا أرتب التزاماتي حسب الأهم فالمهم، دون أن أُغفل أي جانب من حياتي. وطبعا، لولا الدعم القوي من أسرتي، لما تمكنت من تحقيق هذا التوازن.
زوجي كان أكبر داعم لي، وأمي وأختي تحملتا مسؤوليتي في رعاية ابنتي هبة خلال فترات غيابي. بفضل هذا السند العائلي، استطعتُ أن أوازن بين مسؤولياتي المهنية، وحياتي الأسرية، وشغفي برياضة التسلق.
س: تحدثتِ سابقًا عن النظرة النمطية في المجتمعات المحافظة تجاه المرأة المغامِرة. كيف تعاملتِ مع هذه التحديات الاجتماعية؟ وهل تغيرت نظرة الناس إليكِ بعد إنجازاتكِ؟
ج: كانت هناك بالفعل نظرة نمطية تجاه المرأة، خصوصًا في مجال يُعتقد أنه حكر على الرجال. كثيرون كانوا يسألونني: لماذا تتسلقين؟ وماذا عن بيتك وأسرتك؟
لكنني اخترت التركيز على هدفي، بدعم من عائلتي، وتجاهلت تلك الأصوات المثبطة. بفضل الله، تمكنتُ من تغيير هذه الصورة النمطية، وأثبتُّ أن المرأة قادرة على التحدي وتحقيق التوازن بين أدوارها المختلفة.
واليوم، تغيرت النظرة بشكل كبير. أصبحنا نرى مغربيات يتسلقن الجبال، ويشاركن في مغامرات رياضية. ومن خلال جمعية “Delta Evasion”، أرافق فتيات في رحلات تسلق إلى جبل توبقال، لأساعدهن على اكتشاف قوتهن الداخلية وتحقيق أحلامهن.
س: ما هي اللحظة الأصعب التي واجهتكِ أثناء تسلق قمة إيفرست؟ وهل فكرتِ يومًا في التراجع؟ وكيف ساعدكِ الإيمان أو التركيز الذهني والروحي في تجاوز تلك اللحظات؟
ج: أصعب لحظة كانت لحظة الاقتراب من القمة، وسط برد قارس ورياح لا تُحتمل. كنت أشعر بألم جسدي شديد، ومع ذلك حاولت أن أُغلق ذهني عن الوقت والوجع، وأركز فقط على كل خطوة أخطوها.
ما ساعدني على الاستمرار هو إيماني العميق بأن الله معي. كنت أردد داخليًا: “الله لن يخذلني”، وهذا الإيمان منحني قوة لمواصلة الطريق حتى وصلت إلى القمة، رغم المعاناة.
س: هل هناك مغامرات جديدة أو قمم مرتقبة تخططين لخوضها مستقبلًا؟
ج: نعم، من خلال هذا الحوار مع مجلة فرح، أعلن أنني سأخوض قريبًا تحدي تسلق ثاني أعلى قمة في العالم، وهي قمة “كي 2” التي يبلغ ارتفاعها 8611 مترًا، وستكون الانطلاقة يوم 20 يونيو الجاري إن شاء الله.
كما أعتزم أيضًا تسلق قمة “برود بياك”، الواقعة بين الصين وباكستان، والتي يصل ارتفاعها إلى 8051 مترًا.
س: أخيرًا، ما الرسالة التي تودين توجيهها للنساء والفتيات في العالم العربي، خصوصًا من يحملن أحلامًا كبيرة لكن تحاصرهن القيود الاجتماعية أو الخوف من الفشل؟
ج: رسالتي لكل فتاة وامرأة: لا تستسلمن أمام القيود أو الخوف أو الإحباطات. آمنّ بأنفسكن وبحقكن في الحلم وتحقيقه.
لا تخفن من الفشل، فهو جزء من الطريق نحو النجاح. الفشل يُعلّمنا، ويقوّينا، ويدفعنا إلى الأمام.
ومع الصبر والعزيمة والإصرار، لا شيء مستحيل. ثقي بنفسك، وخذي الخطوة الأولى، والباقي سيتحقق بإذن الله.