حوار مريم بورجة
في زمنٍ تتعالى فيه القمم وتنكفئ الهمم، اختارت مريم بورجة أن تُنازل الجبال لا لتنتصر على ارتفاعاتها فحسب، بل لتنتصر لذاتها، ولرسالة إنسانية تحملها معها من قمة إلى أخرى.
هي أول مغربية خاضت تحدي “القمم السبع” العالمي، من توبقال في قلب الأطلس، إلى كليمنجارو، وإلبروس، وجبال الأنديز، وصولًا إلى أستراليا وأعالي السويد.
لا تحركها فقط الرغبة في الإنجاز، بل الإيمان العميق بأن الرياضة يمكن أن تكون جسرًا نحو الوعي والسلام وقضايا الصحة العالمية.
في هذا الحوار الحصري، تفتح لنا البطلة مريم بورجة قلبها، وتُحدثنا عن البدايات المدهشة، وعن الجبال التي صارت أصدقاء، عن الخوف والإرادة، وعن التوشيح الملكي الذي جاء كنبأ فوق الغيوم… كما تشاركنا رؤيتها حول المرأة المغربية، والشابات الحالمات بقمة تليق بطموحاتهن.
س. سيدتي مريم بورجة، هل لك أن تعودي بنا إلى لحظة الانبهار الأولى بجبل توبقال، وكيف حوّلتِ رحلة مدرسية بسيطة إلى بداية حلم تسلق القمم السبع؟
ج. كانت المرة الأولى التي وقفت فيها على قمة جبل توبقال، أعلى قمة في المغرب وشمال إفريقيا، لحظة مفصلية في حياتي. كنت حينها في رحلة مدرسية رفقة أصدقائي، استمرت ثلاثة أيام، لكنها كشفت لي عن جمال طبيعي أخّاذ وروح مغامرة لم أكن أدركها داخلي.
ولعل ما شدّني أكثر هو الطابع الرياضي والتحدي الجماعي الذي تطلبه الوصول إلى القمة. شعور الإنجاز هناك، في أعلى نقطة من المغرب، كان ساحرًا، ومنذ تلك اللحظة وعدت نفسي بأنني سأعود، ليس فقط للتسلق، بل لأجعل منه جزءًا من شغفي الروحي.
س. من المغرب إلى تنزانيا، ثم روسيا وأستراليا والأرجنتين… كيف ساهم كل جبل تسلّقتِه في تشكيل شخصيتك وفي تعزيز إيمانك بدور الرياضة في التوعية والدفاع عن القضايا الإنسانية؟
ج. لم يعد تسلق الجبال بالنسبة لي مجرد هواية، بل تحوّل إلى وسيلة لتمرير رسائل إنسانية. استلهمت هذا المسار من متسلّقين آخرين يحظون بدعم مؤسساتي، رغم أنني لم أكن يوماً تحت رعاية أي جهة، لأنني اخترت أن يكون تسلقي عملاً شخصيًا نابعًا من الشغف. ومن هنا جاء حرصي على ربط كل قمة بقضية: من السلام، إلى التوعية بسرطان الثدي، مرورًا بدعم مرضى الزهايمر.
أردت أيضًا توجيه رسالة للشباب مفادها أن الرياضة ليست فقط وسيلة للعناية بالجسد، بل مدرسة للذهن والإرادة. تعلّمنا كيف نكسر الحدود، نحدّد الأهداف، وندرك أن الحياة – كالجبل – مليئة بالتحديات، لكنها ملهمة ورائعة لمن امتلك الجرأة على التسلق.
س. واجهتِ مخاطر حقيقية خلال مغامرة «كيبنكيز» في السويد، ومع ذلك واصلتِ الرحلة لوحدك من أجل الوفاء بموعد التوشيح الملكي… ما الذي دار في بالك حينها؟
ج. تسلق قمة كيبنيكايسي في السويد كان من أخطر المحطات التي خضتها. علقت وسط عاصفة ثلجية، وضللت طريقي، وواجهت لحظة شعرت فيها فعلاً أنني على وشك الموت. المغامرة وحدي لم تكن الخيار الأمثل، وأدركت لاحقًا أن تسلق الجبال لا ينبغي أن يتم منفردًا.
ومع ذلك، كان هناك هدف عليّ أن أبلغه بأي ثمن: الوصول إلى القمة قبل الموعد الملكي، حيث كنت على موعد مع وسام ملكي من طرف صاحب الجلالة الملك محمد السادس.
س. ماذا تمثل لكِ رسالة صاحب الجلالة ؟
ج. تلقيت رسالة ملكية سامية من صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وكانت مفاجأة حقيقية لم أتوقعها على الإطلاق. هذه الرسالة، التي توصلت بها عام 2008 – أي قبل سبع سنوات من تتويجي بالوسام الملكي – مثّلت نقطة انطلاق محورية في مسيرتي الرياضية.
كنت سعيدة وفخورة للغاية بهذا التكريم، فقد شعرت بأن جلالة الملك كان فخوراً بي وبإنجازي التاريخي كأول امرأة مغربية تصل إلى “سقف أوروبا”. هذا الشعور بالرضا والتقدير من أعلى سلطة في البلاد شكّل بالنسبة لي بلوغ القمة في سلم التشجيع والتحفيز.
بالنسبة لي، كانت هذه الرسالة بمثابة وسام معنوي محفّز، حملتني على مواصلة الطريق بكل ثقة. لم أعد أنتظر شيئًا من أي جهة بعد ذلك، لأنني كنت قد نلت أعلى درجات التقدير.
س. كونك أول مغربية تخوض مغامرة القمم السبع، ما التحديات التي واجهتك كامرأة مغربية في بيئة مغامرات يطغى عليها الحضور الذكوري؟ وهل تشعرين أن صورتك كسيدة متسلقة كسرت نمطاً معيناً في المجتمع؟
ج. بلا شك، خوض مغامرة القمم السبع كامرأة مغربية لم يكن بالأمر الهيّن، خاصة في مجتمع ما يزال يحمل بعض الصور النمطية عن المرأة. قبل سنوات مضت، لم يكن من السهل أن تسافر امرأة بمفردها، تحمل حقيبة ظهر، وتغامر في مناطق نائية. كانت المخاطر متعددة: من السقوط أو العارض الصحي، إلى مواجهة الغرباء في أماكن معزولة.
لكن لحسن الحظ، تغيرت العقليات كثيرًا في وقتنا الحاضر. اليوم، تُمارس الرياضات الجبلية باحترام واهتمام، ولم تعد تُثير استغراب المجتمع.
أما في الخارج، فكانت التحديات أكثر لوجستية وثقافية، خاصة عند السفر بمفردي. الأصعب لم يكن التسلق نفسه، بل كل ما يسبقه وما يليه من ترتيبات، وتأقلم مع بيئات وثقافات قد تكون معقدة أو حتى خطرة.
س. باعتبارك من المتسلقات المغربيات اللواتي بلغن قمة إيفرست، كيف تصفين الرحلة النفسية والذهنية التي صاحبتكِ خلال هذه المغامرات؟
ج. في الحقيقة، لم أبلغ قمة إيفرست بعد، لكنها بالتأكيد من بين أهدافي الكبرى. رغم ذلك، أعتز بكوني أول امرأة مغربية اقتحمت مجال تسلق الجبال بهذا الشكل، وهذا ما كرّسته الرسالة الملكية السامية.
س. من التسويق المقاولاتي إلى تسلّق القمم… كيف جمعتِ بين مسارك المهني وشغفك الجبلي؟ وهل يمكن أن تبوح لنا مريم بورجة عن كيفية إدارة وقتها ومواردها لتحقيق هذا التوازن؟
ج. التوفيق بين الحياة المهنية والشخصية ليس بالأمر الهين على الإطلاق. عملي يتطلب كثيرًا من التنقل والجهد، والتدريبات الجبلية بدورها مرهقة وتستنزف الوقت والطاقة. هناك لحظات أشعر فيها بالإنهاك، وربما برغبة في الاستسلام، لكن الإرادة دائمًا ما تنتصر. ولا يوجد أفضل من التحفيز الذاتي: أن تقول لنفسك إنه يمكنك تحقيق ذلك على الرغم من كل شيء.
وهناك أيضا التنظيم الذي يعد عاملا أساسيا، وإن لم يكن سهلاً دومًا. أؤمن أن لا شيء يتحقق دون تعب، كما تقول المقولة الإنجليزية الشهيرة: “No pain, no gain”؛ أي “لا شيئ يأتي بدون جهد”. وهكذا هي الحياة، يجب أن تعمل وتثابر وأحياناً تعاني حتى تتمكن من تحقيق هدفك.
س. أخيراً، ما هي القمة التي ما تزال تسكن خيالك ولم تطأها قدماك بعد؟ وماذا تقولين اليوم للشابات المغربيات اللواتي يحملن حلماً قد يبدو بعيد المنال؟
ج. لا تزال قمة K2، الواقعة بين الصين والباكستان، تسكن مخيلتي. هي ثاني أعلى قمة في العالم بعد إيفرست، لكنها أكثر صعوبة وخطورة من إيفرست نفسه. تسلّقها حلم أرجو أن أحققه قريبًا، بإذن الله.
ولكل فتاة مغربية تحمل حلماً يبدو بعيد المنال، أقول: لا تخافي. كوني جريئة، واحلمي بأحلام كبيرة، ولا تسمحي للخوف أن يقف في طريقك. كل تحدّ تتغلبين عليه سيصنع منك امرأة أقوى. النجاح ليس صدفة ولا سحرًا، بل هو ثمرة جهد وصبر وإيمان بالله ثم بالنفس.
لا توجد وصفة سحرية للنجاح.، يتطلب الأمر الكثير من العمل الجاد، والصبر، والمثابرة، والإيمان بالنفس بعد الإيمان بالله.
حوار: علاء البكري