تكرّست فاطمة المرنيسي عبر الخارطة العربية وفي العالم باعتبارها أشهر عالمة اجتماع عربية، ومن أكثر كُتّاب العالم العربي تأثيرًا في الوجدان الغربي
إذا كان للثقافة والأدب العربيين اليوم من عنوان يمثلهما لدى الشعوب الأخرى فهو “ألف ليلة وليلة”، ذات الكتاب الذي تبرّأنا منه على الدوام واعتبرناه كتابًا لقيطًا هجينًا ملفّقًا. ولعل وهم الصفاء الأدبي وأسطورة الأدب الرفيع قد منعتا العرب من تقدير القيمة الأدبية لـ”ألف ليلة وليلة”، وكان يجب انتظار بورخيس وغيره لكي نستعيد حكايا شهرزاد بروح جديدة تعيد لكتاب الليالي اعتباره.
وكنت على الدوام أحس أن ما يزعج الأكاديموس في أبحاث المرنيسي هو روح الأديبة التي تسكنها. تلك الحكّاءة المفتونة بالقصص: قصصها هي، قصص الآخرين وحيواتهم. لكن اليوم بعد رحيل فاطمة المرنيسي، اكتشفنا جميعًا أن علم الاجتماع العربي فقد أحد أبرز أسمائه وأكثرها مقروئية على المستوى العالمي.
نفس المنطق الذي صنّفت به المؤسسة النقدية العربية “ألف ليلة وليلة” خارج الأدب، استخدمه الأكاديموس لتبخيس منجز فاطمة المرنيسي. ومثلما ترسخت “ألف ليلة وليلة” في وجدان جمهور الأدب وقرائه عبر العالم باعتبارها كتاب العربية الأول، تكرّست فاطمة المرنيسي عبر الخارطة العربية وفي العالم باعتبارها أشهر عالمة اجتماع عربية، ومن أكثر كُتّاب العالم العربي تأثيرًا في الوجدان الغربي. لكن، هل من وشيجة إضافية تربط بين الليالي وفاطمة خارج المصير المشترك الذي عرّضهما معًا لظلم ذوي القربى قبل أن ينصفهما الآخر الغريب؟ طبعًا. إنّها شهرزاد. فبقدر ما تألّقت شهرزاد في الليالي وهي تواجه جبروت شهريار بالحكايا، أصرّت شهرزاد المغربية على أن تحكي وتجعل الآخرين يحكون لها ومن خلالها قبل أن تعكف على تدوين حكاياتهم. كانت البداية مع خادمات البيوت، المُياوِمات، عاملات النسيج، ونساء البوادي. ولأن الحكايات السائبة المرتجلة لا تكفي لمواجهة شهريارات هذا العصر، بدأت شهرزاد المغربية تبشر بالكتابة. فأطلقت من داخل الجامعة أوراش الكتابة الأولى حين ساهمت سنة 1984 في تأسيس أول مجموعة للأبحاث حول المرأة والأسرة في المغرب، كما أطلقت سلسلة “مقاربات” التي كانت تشرف عليها شخصيا. كانت تدعو إلى تحرير الصوت. تحرير القلم. تحرير اللغة. دائما عبر الكتابة. وبعدما استشعرت أنّ “عدو الكتابة الأول هو الأكاديمي خرّيج الجامعة، لأنه يكتب بمصطلحات غالبًا ما تكون بعيدة عن متناول القرّاء”، اشتغلت على لغتها لتصير سلسة سهلة المأخذ مبذولة للعموم، وهرَّبت أوراشها خارج أسوار الجامعة لتطلق من شقّتها المتواضعة بحيّ أكَدال في الرباط “ورشات الكتابة من أجل الديمقراطية”. التجربة التي منحت من خلالها الفرصة للنساء الأميات، لناسجات الزرابي، لضحايا الاغتصاب والتحرش الجنسي، للشباب من الجنسين، لكي يكتبوا حكاياتهم. إنها شهرزاد عصرية مهووسة بالكتابة: كتابة الحكايات. شهرزاد ديمقراطية تؤمن بأنه لم يعد من حقها أن تحتكر الحكي. فعلى الأخريات وعلى الآخرين أن يحكوا وأن يفصحوا عن أحلامهم وتطلعاتهم عبر الكتابة. وخلافا لشهرزاد القديمة التي كانت تحتكر كل شيء، أصرّت شهرزاد المغربية على أنّ دور المثقفين ليس النيابة عن الضحايا، وعن الناس البسطاء، بل تأطيرهم وتحفيزهم على الكتابة. هكذا من خلال أوراش الكتابة التي أدارتها فاطمة المرنيسي بدأب على امتداد سنوات ومن خلال المؤلفات الجماعية بالغة الجرأة التي أصدرتها صار الضحايا يصرخون مباشرة دونما حاجة إلى وسطاء. فاطمة المرنيسي امرأة عصيّة على التصنيف. يتداخل الفكر في كتاباتها بالأدب، والبحث الأكاديمي بالتخييل. هي متعدّدة بطبيعتها، لذلك كانت دوما ترفض الاختزال. النسائيات العربيات اللواتي أثارهنّ بشكل خاص اشتغالها الجريء على قضايا المرأة منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، سرعان ما تنكّرَتْ لهنّ، أو على الأقل فاجأتهنّ وهي تغيِّر الوجهة باتجاه المجتمع المدني. “لستُ مناضلة نسوية لأنشغل بالمرأة فقط”، تقول فاطمة، “لقد انخرطت في دينامية المجتمع المدني لأنه فضاء لا تقف فيه المرأة بمواجهة الرجل، بل يعملان معا ويتعاونان”. ولتجسيد هذا الحلم، أطلقَتْ قافلة مدنية أرغمت من خلالها عددا من المثقفين والفنانين والفاعلين المدنيين على النزول من أبراجهم العاجية للتفاعل مع ساكنة القرى والبوادي في المغرب العميق، المنسي، والمهمّش. فأعطت بذلك لعدد من مثقفي اليسار الذين كانوا يصنّفونها كبورجوازية درسًا في الطريقة التي يمكن بها للمثقف العضوي -فعلا لا شعارا- أن يمارس نضاله الثقافي ويضطلع بدوره داخل مجتمعه.
كانت لفاطمة المرنيسي دائما طريقتها الخاصة في قول الأشياء وفي طرح الإشكاليات وبسطها. لكن الثابت في مشروعها الفكري هو الحوار. ظلت دوما تقترح الحوار سبيلا للخروج من المآزق الحضارية. وكانت الآية القرآنية الأقرب إلى روحها ووجدانها هي “ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوةٌ كأنّه وليٌ حميم”.